أولًا) قراءة في التجربة
كان الفتح العثماني للبوسنة في 1463م، ثم بعد ذلك للهرسك في عام 1482م[i]، ساعد على انسجام أهل هذه البلاد مع ثقافة الفاتحين الجدد، ومن أوائل ما تم بناؤه من قبل العثمانيين كوقف في قرية بروداتس، عبارة عن جامع وحمام وخان وزاوية، ليتحول لاحقًا إلى نواة مدينة سراي بوسنة أو سراييفو التي أصبحت لاحقًا عاصمة البوسنة، وهكذا نشأت البوسنة والهرسك مع ثقافة الوقف، لا سيما في مجال الزوايا والتكايا، مثل المولوية والنقشبندية والقادرية وغيرها[ii]. وتعتبر تسمية بعض المـدن بالوقف أكـبر شاهد على دور الأوقاف في تطوير البوسنة والهرسك، وظهور المراكز الحضرية فيها مما تبعه ظهور المراكز السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية[iii]. غير أنها بعد الحروب المتتالية وسقوط الخلافة العثمانية، فضلًا عن خضوعها لاحقًا لما يسمى بــ الاتحاد اليوغسلافي، وتحولها لدولة علمانية، ثم تشكلت مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين دون أن يُعطى سكان البوسنة والهرسك حق المواطنة في إبداء رأيهم حولها، وقد أصدرت هذه المملكة قانون الإصلاح الزراعي الذي تم بموجبه من عام 1918 إلى عام 1939، مصادرة حوالي أربعة ملايين دونم من أراضي الأوقاف (4000000 دونم)، واثني عشر مليون دونم ونصف من أراضي البكوات 12500000دونم، بإجمالي قدره 16.5 مليون دونم (16500000دونم من أراضي الأوقاف وأراضي البكوات، – وهم كبار رجال الدولة- وهذا يمثل 27.6 ٪من مجموع مساحة البوسنة والهرسك، كما تمت في تلك الفترة مصادرة 95 ٪من الأراضي التي كانت بحوزة كبار الملاك لتلك الأراضي. وكذلك في عام 1939، وبقرار واحد من قضاء بانيالوكا، تمت مصادرة 107.000 دونم من ممتلكات أوقاف الغازي خسرو بك[iv] في تسليتش وتيشان. وفي سراييفو وحدها، تم هدم 24 جامعًا، كلها من العهد العثماني المبكر، وكان الهدف من هذا إحداث توطين للسكان الأصليين[v].
كما أن التأميم (Nationlization ) هو عملية تحويل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والمبادلة في المجتمع إلى ملكية جماعية، بهدف تحقيق المصلحة العامة كما يرى نظام الدولة، وصار نزع ملكية الممتلكات الخاصة الذي أجري في أعوام 1946 و 1948 و 1958م، جعل من ملكية الدولة أو الملكية العامة، هي الملكية المهيمنة في جميع القطاعات الاقتصادية وفي مجال العقارات أمرًا واضحًا في. ويعتبر قانون التأميم، المدخل الرئيسي لمصادرة أغلب ممتلكات الأوقاف من مطاحن وفنادق ومصحات ومؤسسات مماثلة. ففي 17 فبراير 1945م صدر قانون يقضي بالتصرف في الشقق السكنية والمباني التجارية، ثم صدر قانون آخر بتاريخ 28 ديسمبر 1958 المتعلق بتأميم مباني الإيجار وأراضي البناء، التي كان أغلبها ملكًا للأوقاف الإسلامية. وفي عام 1950، تم مصادرة نحو 80 مقبرة للمسلمين في سراييفو، بلغت مساحتها الإجمالية 350 دونما [vi].
وفي عهد جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية، عززت قانون التأميم، فصادرت كل شيء إلا الأوقاف الدينية، كالمساجد، وصارت كل الأملاك الوقفية معرضة للمصادرة، حتى أن عمليات التأميم ابتلعت 95% من أملاك الأوقاف الإسلامية في البوسنة، وطالت كل الأراضي الزراعية وأراضي الغابات وكتاتيب التعليم والمساجد ومباني خصصت لأغراض مختلفة بعضها هدم وبعضها حول إلى مستودعات للبضائع أو حظائر للماشية ومواقف للسيارات[vii]. وعندما تم وضع دستور جديد للمشيخة الإسلامية عام 1960، تم إدراج مفهوم الوقف باعتباره من ممتلكات المشيخة الإسلامية، وأنها هي الوصية على أملاك الوقف. لكن للأسف سرعان ما تعرضت الأوقاف من جديد لحرب إبادة، ودمرت الكثير من الأوقاف الدينية، فقد تم تدمير أكثر من (640) مسجدًا خلال الحرب في نهاية عقد التسعينات، وفي أحد الدراسات ذكرت أن 1700 مسجد وكتّاب وتكية دمرت خلال الحرب[viii].
وفي الختام، يمكن القول بأن الممتلكات الوقفية في البوسنة والهرسك قد اغتصبت أو هلكت ما بين اعتداءات ومصادرة وبين حروب واستئصال، إلى أن تم تأسيس مديرية الأوقاف بقرار رقم 2486/96 الصادر بتاريخ 14 يونيو 1996م عن مجلس المشيخة الإسلامية، وعزمها على استعادة أصولها الوقفية المصادرة، وفتح المجال أمام المسلمين للوقف من جديد[ix].
ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية
اليوم بعد استقرار واقع الأوقاف والتي هي من اختصاص المشيخة الإسلامية في البوسنة، ومرخصة ضمن حرية الأديان، ولها قانونها الخاص باسم المديرية العامة للأوقاف ولائحتها الداخلية في مجال الاستثمار والصرف وغيرها كما يرى مديرها العام[x]، وتقدر عدد أصولها في 1620 عقار وقفي[xi]. ويوجد نوعان من الأوقاف فيها، وقف الممتلكات المنقولة بما فيها النقود، ووقف الممتلكات غير المنقولة. وقد استفادت المديرية من صيغة (BOT) لأنها تملك وفرة كبيرة من العقارات الوقفية، فيتم الشراكة مع رجال الأعمال والمؤسسات المالية لغرض تعمير الأوقاف، وخاصة الأوقاف التي لا إيراد لها وغير ذلك من الأوقاف المعطلة. وقد قدمت المديرية العامة عدة صناديق استثمارية لدعم المجتمع، كصندوق التعليم الذي يوزع على 300 منحة تعليمية، وصندوق وقف علي عزت (150) منحة دراسية، وصندوق مساعدة الفقراء، وصندوق تشجيع الوقف وصندوق لاستصلاح الأراضي الزراعية، وصندوق لإعادة تفعيل الأوقاف، وقد ضخت المديرية ما يقارب 50 مليون يورو [حوالي 59 مليون دولار أمريكي] كاستثمارات للمشاريع الوقفية[xii]، وقامت المديرية العامة بعد انتهاء الحرب بإنشاء ست مدارس ثانوية وثلاث كليات جامعية على حساب الأوقاف، كما أنها تعمل على تعزيز السياحة الدينية في البوسنة حيث أن هناك إيرادات مناسبة منها. وتعمل المديرية العامة للأوقاف على تحقيق عدة إنجازات على أرض الواقع، منها نماذج وقفية قائمة، مثل إعادة بناء حمام عيسى بك في سراييفو[xiii]، والذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر، وكان مثال لما يسمى حمام المدينة المزدوجة، وهو الآن تحت حماية معهد الثقافة[xiv]، وتفوق قيمة المشروع 1.2 مليون دولار أمريكي[xv].
وأيضًا إنشاء مركز تجاري وقفـي فـي أكثر مناطق موستار حيوية وحركة، يتكون من 6 طوابق، مساحته الإجمالية 5600 م2، وتزيد قيمته على 2.4 مليون دولار أمريكي، كذلك إنشاء 4 عمارات سكنية تجارية فـي توزلا بمساحة إجمالية قدرها 13715 م2، ومن النماذج الوقفية تطوير النظام المعلوماتي لممتلكات الأوقاف فـي البوسنة والهرسك، وتبلغ تكلفة هذا المشروع 61 ألف دولار أمريكي، ويتكون هذا النظام المعلوماتي من 3 وحدات: سجلات الممتلكات غير المنقولة، والمنقولة، والإدارة المالية للأوقاف، والشؤون المالية، وتحديد جميع الأوقاف فـي البوسنة والهرسك وتسجيلها فـي السجل العقاري[xvi].
ثالثًا) استشراف التجربة
وفي العموم، فإن الأوقاف الإسلامية كانت داعمًا رئيساً لمسلمي البوسنة، حيث كانت الأوقاف تمثل ثلث مساحة البلاد، لكن تم تأميمها إبان العهد الشيوعي قبل سبعة وستين عامًا، وبعد زوال العهد الشيوعي رفض مجلس الشعب البوسني إجازة قانون التعويض عن الممتلكات الوقفية التي تم تأميمها، فالأرض التي عليها مجلس الرئاسة في البوسنة هي أرض وقفية، والكثير من الأوقاف تم استخدامها في عهد يوغسلافيا الشيوعية، ويقدر أن الأوقاف تخسر سنويًا ما يقارب 12 مليون يورو [حوالي 14 مليون دولار أمريكي] بسبب التأميم[xvii]. وهذا يجعلنا نقول إن عدم سن قانون إعادة الممتلكات المؤممة والمصادرة؛ يعتبر التحدي الرئيسي للمديرية العامة للأوقاف، إذ ما زال البيع قائمًا لبعض ممتلكات الأوقاف المؤممة في عدد من البلديات، كما أن هناك فقدانًا لعدد كبير من الحجج الوقفية، ومخططات التنظيم العمراني الجديدة، لا سيما في المناطق التي تخضع إداريا لكيان جمهورية صربيا في البوسنة والهرسك[xviii].
كذلك يمكن اعتبار الممارسات الخاطئة لدى بعض مجالس المشيخة الإسلامية في عدم حماية الأوقاف وعدم صرف إيراداتها وفقا لشروط الواقفين، من الأمور التي تؤثر سلبًا على ثقافة الوقف عند المسلمين، وهذا ما يستدعي زيادة التوعية لأهمية الوقف في التنمية المحلية، والعمل على تطوير مهارات كوادر المديرية العامة للأوقاف. ومن خلال المعطيات السابقة، يتوقع أن يكون القطاع الوقفي في البوسنة والهرسك الأساس المادي والاقتصادي لتمويل جميع النشاطات الخيرية بصفة عامة، وهذا لايتأتى إلا إذا قامت المشيخة الإسلامية بوضع تخطيط طويل الأمد لجميع مشاريع المؤسسة، وذلك من أجل تغطية الميزانية المخصصة للمؤسسات الوقفية.، كما قامت المشيخة بجهود حثيثة نحو توثيق الأوقاف المغتصبة واقتراح التشريعات المناسبة لاستردادها.