أولًا) قراءة في التجربة
لقد عرف المجتمع في الجزائر الوقف منذ بداية الفتح الإسلامي للمنطقة[i]، إلّا أن حجمه قد ازداد وتكاثر خلال الوجود العثماني في البلاد؛ حيث أصبحت الأوقاف في الجزائر تشكل نسبة كبيرة من الأراضي الزراعية والأملاك العقارية وتضم العديد من الدكاكين والأفران والمزارع والمطاحن. حيث تشير الدراسات التاريخية أنه عند دخول الاستعمار الفرنسي الجزائر كانت نصف أراضي الجزائر العاصمة وقفًا[ii].
غير أنه وبعد هذه الفترة، وتحديدا خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر تعطل عمل هذه المؤسسات الوقفية بسبب السياسة الفرنسية التخريبية التي سعت إلى هدم النظام الوقفي في الجزائر، وذلك من خلال إصدار سلسلة مراسيم وقرارات تنص صراحة على نزع صفة الحصانة عن الأملاك الوقفية، وإلحاقها بأملاك الدولة الفرنسية؛ مثل القرار المؤرخ في 08 سبتمبر 1830م الذي يقضي بالاستحواذ على بعض الأوقاف التابعة لمؤسسة أوقاف الحرمين بحجة أن عوائدها تصرف على الأجانب، وغير ذلك من القرارات والمراسيم التي تهدف إلى نزع الحصانة على الأملاك الوقفية. [iii]
حيث نجد الاحتلال الفرنسي منذ عام 1830م قام بغلق 13 مسجدًا كبيرًا، 108 مسجدًا صغيرًا، 32 جامعًا، 12 زاوية[iv]. وهذا التعدي على الأموال الوقفية والاستيلاء عليها من غير المسلمين جعلها تتناقص وتندثر، حيث بلغت الأملاك الوقفية سنة 1936م (1419) عقارًا، تصرف المحتل الفرنسي في (188) بناية وقفية لصالح الإدارات الفرنسية، وتم هدم البعض الآخر[v].
أما من حيث التسيير؛ فقد شهدت إدارة الأوقاف العديد من القوانين والمراسيم المنظمة لها؛ وهي: قانون 64/283 المؤرخ في 17 سبتمبر 1964 المتضمن نظام الأملاك الحبسية، ثم قانون 84/11 المعدل والمتمم بالأمر 05/02 المتضمن قانون الأسرة، والذي تضمن 08 مواد (من المادة 213 إلى المادة 220) تنظم الأوقاف، ثم دستور سنة 1989م، والذي أوجب حماية الأملاك الوقفية بنص المادة 49 منه، يليه قانون 90/25 المتضمن التوجيه العقاري، والذي رتب الأملاك الوقفية كصنف من الأصناف العقارية القانونية الثلاثة في الجزائر (أملاك عقارية عامة، أملاك عقارية خاصة، أملاك عقارية وقفية)، وقانون 91/10 المؤرخ في 27 أبريل 1991م المتضمن قانون الأوقاف؛ والذي يعتبر القانون الأساسي للأملاك الوقفية، بالإضافة إلى العديد من المناشير الوزارية والمراسيم التنفيذية التي تُعنى بشروط إدارة الأملاك الوقفية وتسييرها وحمايتها وكيفية دفع بدل إيجارها[vi]، وكان آخر هذه القوانين هو المرسوم التنفيذي رقم: 18/213 المؤرخ في 20 أغسطس 2018، والمتعلق بتحديد شروط وكيفيات استغلال العقارات الوقفية الموجهة لإنجاز المشاريع الاستثمارية[vii].
كما صدر مرسوم تنفيذي رقم 121/179، 21 رمضان 1442هـ، الموافق 3 مايو 2021 يتضمن إنشاء الديوان الوطني للأوقاف والزكاة وتـحديد قانونـه الأساسي[viii]، وجعله يتمتع بشخصية معنوية واستقلال مالي، وله صلاحية في الاستثمار والتنمية في أصول الأوقاف في عموم البلاد.
ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية
يقدر عدد الأملاك الوقفية العقارية في الجزائر إلى غاية سنة 2020م بـــ: 11.751 ملكًا وقفيًا موزعة على 48 ولاية[ix]، وتتنوع هذه الأوقاف ما بين: مساكن، محلات تجارية، أراضي فلاحية، مساجد، مرشات وحمامات وأملاك وقفية أخرى (مخازن، مكاتب، مكتبات، مدارس قرآنية، كنائس، سيارات إسعاف، حاضنات…) [x]، وحسب البطاقة الوطنية للأملاك الوقفية لسنة: 2020م، فإن أعداد الأملاك الوقفية يكون على النحو التالي [xi]:
نوع الملك الوقفي | عدد الأملاك الوقفية |
محلات تجارية | 1514 |
مرشات وحمامات | 661 |
سكنات وظيفية إلزامية | 6313 |
سكنات | 1396 |
أراضي فلاحية | 656 |
أراضي (بيضاء، مبنية، غابية) | ( 202،644، 10) |
أشجار / نخيل/بساتين/ واحات | 157 |
المجموع | 11751 |
في حين تشير بعض الإحصائيات إلى أن حجم الأوقاف في الجزائر يقارب 220 مليون دولار، أما الريع المتحقق من هذه الأملاك الوقفية يقارب 1,5 مليون دولار فقط[xii]. وهذا ما يجعلنا نلحظ عدة نماذج وقفية، حيث توجد العديد من النماذج الوقفية الناجحة في التجربة الوقفية الجزائرية؛ نذكر منها[xiii]:
وقف سيدي يحيى بلاكونكورد: هذا الوقف من أوقاف سيدي يحيى الطيار بحي لاكونكورد ببلدية بئر مراد رايس، ويُعتبر أكبر مشروع وقفي عصري؛ حيث يخصص جزء من ريعه لمسجد الجزائر، وسيبنى هذا المشروع على أرض مساحتها 15.000 م² وتصل تكلفة هذا المشروع لـ 4.800.000.000 دينار جزائري (ما يقارب حاليا 36.124.000دولار أمريكي). ويضمّ برجًا من 25 طابقًا مخصصًا لمكاتب أعمال وفندق ثلاثة نجوم، بالإضافة إلى قاعة مؤتمرات، ومركز رياضي، ومركز تجاري، وموقف سيارات يتسع لألف سيارة.
شركة ترانس وقف، وهي شركة ذات أسهم، تمّ تأسيسها في سنة 2007م، وانطلق نشاطها على أرض الواقع في بداية 2009م عن طريق تشغيل 30 سائق سيارة أجرة تم اقتناؤها خصيصا لهذا الشأن. وتعمل هذه الشركة الوقفية وفق أساليب التسيير التجاري الحديث، حيث حُدد رأسمالها آنذاك بــ 33.000.000 دينار جزائري، ما يعادل حاليا 248.000 دولار أمريكي منها:
30.000.000دج عن مساهمة من الصندوق المركزي للأوقاف؛ 3.000.000دج عن مساهمة من بنك البركة الجزائري، ونظرا للقوانين المحددة لسير الشركات ذات الأسهم؛ والتي تشترط وجود سبعة شركاء على الأقل في مثل هذه الشركات، فقد ارتفع رأسمالها إلى 33.940.000 دينار جزائري، (ما يقارب حاليا 255.000 دولار أمريكي)، وذلك عن طريق دخول خمسة مساهمين جدد. وتجدر الإشارة بأن شركة ترانس وقف قد قامت إلى يومنا هذا بتشغيل حوالي 160 شخصا منذ انطلاق نشاطها، هؤلاء يعولون حوالي 0100 شخص آخرين بمعدل 160 عائلة. ترانس وقف تقوم بتحصيل ما يفوق 19.000.000 دينار جزائري سنويا، (ما بقارب حاليا 143.000 دولار أمريكي) كرقم أعمال عن طريق 30 سيارة مستغلة، هذا الرقم يمكن مضاعفته بتضاعف عدد السيارات، وتوسيع النشاط الذي تهدف إليه الوزارة الوصية حاليا والتي لا تدخر جهدا لترسيخ ذلك على أرض الواقع، بحيث إن الحديث سيكون بمليارات الدنانير عندما يتحقق ذلك فعلا[xiv].
ثالثًا) استشراف التجربة
على الرغم من عراقة نظام الوقف في الجزائر والحجم الكبير للأوقاف، فقد عانى قطاع الأوقاف في الجزائر العديد من العوائق والتحديات التي شكلت إعاقة واضحة في نمو أصوله وريعها بصورة كبيرة، من أبرزها:
مركزية التسيير الإداري للأملاك الوقفية، والمتمثلة في مديرية الأوقاف والزكاة والحج والعمرة التابعة لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف؛ الجغرافية الكبيرة للدولة؛ مما يًصعب الوقوف على حجم الأملاك الوقفية المندثرة والمسلوبة خلال الفترات التاريخية السابقة (فترة الاستعمار الفرنسي، ثم فترة التوجه الاشتراكي للدولة الجزائرية)، وهذا يفسر لنا صعوبة تنفيذ قرارات استرجاع الأملاك الوقفية؛ خاصة الأراضي المؤممة في إطار الثورة الزراعية؛ ضعف الطواقم الإدارية المتخصصة الكافية لتسيير واستثمار الأملاك الوقفية بالطرق الحديثة، ويتوازى هذا مع ضعف الجانب الإعلامي المُوجه لنشر ثقافة الوقف في المجتمع الجزائري؛ الأوقاف في الجزائر أخذت حيزًا كبيرًا في مجال الأوقاف الدينية كالمساجد والمدارس القرآنية، ولم تأخذ بعين الاعتبار الأوقاف الاستثمارية التي هي الرافد الحقيقي لقطاع الوقف وقوته التنموية في المجتمعات والدول؛ تواجه التجربة الجزائرية صعوبة إعداد الملفات الخاصة بالأملاك الوقفية، وتوحيد الوثائق الإدارية الخاصة بتسييرها، وتحسين قيمة بدل الإيجار بما يعادل إيجار المثل، فضلًا عن هذا كله حصر الأملاك الوقفية، من خلال مواصلة عمليات البحث عن الأملاك الوقفية المنهوبة وتوثيقها، وذلك بالاستعانة بالخبراء وموظفي المصالح العقارية، المسح العقاري، إذ تمّ استرجاع المفقود من أصول الوقف لما يقارب 4621 عقارًا وقفيًا وتوثيقها، ثم الدخول في منازعات مع آخرين حول التعدي على الأوقاف، فتم الفصل بــ (600) قضية لصالح مؤسسة الوقف، وما زال هنالك (400) حالة.
لكن تقديراتنا أن التجربة الجزائرية لها القدرة على تجاوز العديد من الصعوبات والعوائق بسبب عراقة التجربة وتنوع الأملاك الوقفية فيها، مما يساعد على إنشاء بيئة استثمارية وقفية متميزة، فضلًا عن وجود ترسانة قانونية تنظم وتحمي الأملاك الوقفية، وإمكانية الاستفادة من التجارب الرائدة في مجال استثمار الأوقاف.