جمهورية مصر العربية

أولًا) قراءة في التجربة

لمصر تاريخ عريق بالوقف[i]، وأفضل من كشف عن علاقة المصريين بالوقف الشيخ محمد مصطفى شلبي عندما تحدث عن تاريخ الأوقاف فيها، فقال:” فهذه الأمور وغيرها تدلنا على أن الوقف أصبح بعد معرفة المصريين له شائعًا بينهم، بل جزءًا من كيانهم لا يطيب لهم عيش إلا معه”[ii].

وتُعد مصر من الدول الرائدة في مجال الوقف حتى وإن كثرت المشكلات حوله في الوقت الحاضر، وقد ظهر الوقف في مصر مع بداية الفتح الإسلامي للمنطقة، وأن أول وقف في البلاد المصرية يتمثل في جامع عمرو ابن العاص؛ والذي كان في سنة 21ه- 631م[iii]. وتذكر المصادر التاريخية أن مصر في وقت من الأوقات كانت نسبة 40% من جملة أراضي مصر الزراعية موقوفة، فضلًا عن العديد من العقارات المبنية وبعض المنقولات وشمل الوقف العديد من جهات البر مثل الدعوة الإسلامية والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والمياه ورعاية الحيوانات وغيرها[iv].

وقد ظلّ العمل في تسيير الأوقاف يتم وفق الأحكام الفقهية المنظمة للوقف إلى غاية تولي توبة بن نمر القضاء في مصر في عهد هشام بن عبد الملك، فأوجد لها تنظيمًا، وأنشأ لها ديوانًا مستقلًا عن بقية الدواوين، ووضعه تحت إشرافه، مهمته تسيير وإدارة الأوقاف، وبذلك تكون إدارة الأوقاف مشتركة بين القضاء الشرعي– الذي يتولى الإشراف العام– والحكومة ممثلة في ديوان الأوقاف – يتولى الإدارة فعليا بواسطة النظار والوكلاء–. ويعد هذا الديوان أوّل تنظيم للأوقاف ليس في مصر فحسب، بل في كافة الجهات الإسلامية. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الأوقاف تابعة للقضاة، وصار من المتعارف عليه أن يتولى القضاة النظر على الأوقاف؛ بحفظ أصولها وقبض ريعها وصرفه في أوجه صرفه [v].

ونظرا للتوسع الكبير في الأوقاف في عهد الدولة الأيوبية ودولة المماليك تمّ إنشاء ثلاثة دواوين للأوقاف: ديوان المساجد، ديوان لأوقاف الحرمين الشريفين، ديوان للأوقاف الأهلية[vi]. إلّا أن الملاحظ على الأوقاف في مصر أنها كانت مطمعا للولاة والحكام على مرّ العصور، خاصة مع الحاجة إلى جباية المال؛ ومن مظاهر ذلك: أنه في عهد الدولة الفاطمية تمّ إبطال العديد من الأوقاف بسب تطبيق نظرية ملكية الدولة للأراضي. وكذلك محاولة الظاهر بيبرس الاستيلاء على الأوقاف وغيرها من الأراضي الأهلية[vii]، أما الناصر بن قلاوون فقد همّ بالاستيلاء على نصف أوقاف المساجد، والتي بلغت 130ألف فدان، غير أن وفاته حالت دون ذلك.

وفي عهد محمد علي وتحديدًا حتى عام 1925م وصلت الأراضي الموقوفة في مصر إلى 770 ألف فدان[viii]، – والفدان مقدارٌ من الأرض الزراعيّة تقدر مساحته في مصر 4200 متر مربع – وفي دراسة أخرى أن نسبة الأملاك الموقوفة في مصر عام 1927م تصل إلى ثمن الأملاك المسجلة، وقد تناقص هذا الرقم تحديدًا منذ ثورة يوليو 1952م بسبب تدخل الدولة في أعمال مؤسسة الوقف[ix].

هذه النبذة التاريخية انعكست على إدارة الأوقاف من جهة[x]، وعلى حركة التشريعات والقوانين المتعلقة بالوقف من جهة أخرى؛ حيث يُعتبر القانون رقم 48 لسنة 1946 وهو أول قانون يهتم بتنظيم الأوقاف في مصر،  والذي تمّ تعديله في العديد من المرات[xi]. كما إن تدخل الدولة في أعمال الوقف كان واضحًا وظاهرًا؛ وخير مثال على ذلك استيلاء الدولة على كامل أوقاف جامعة الأزهر الموروثة، والتحكم فيها، ولم يتم ضبط أي وقفيات جديدة لصالح الأزهر منذ (عام 1952 حتى عام 2011) [xii]. بالإضافة إلى إصدار قانون إعادة تنظيم هيئة الأوقاف المصرية لعام 2020م، لتنوب محل وزارة الأوقاف، كما تمّ إلغاء القانون رقم 80 لسنة 1971م المتعلق بإنشاء هيئة الأوقاف المصرية، وكذا قرار رئيس الجمهورية رقم 1141 لسنة 1972م المتضمن تنظيم العمل بهيئة الأوقاف، واستمرار العمل باللوائح والقرارات السارية لحين إصدار وزير الأوقاف اللائحة التنفيذية للقانون، كما جاء مشروع القانون فى 20 مادة مقسمة إلى 4 فصول؛ حيث منح المشروع الشخصية الاعتبارية لهيئة الأوقاف المصرية بكونها هيئة عامة تتبع وزير الأوقاف، وأن يكون مقرها محافظة القاهرة، كما فصّلت مواد القانون الاختصاصات المنوطة بالهيئة بما يمكنها من تحقيق أغراضها، وفى مقدمتها إدارة الأوقاف الخيرية واستثمارها والتصرف فيها على أسس اقتصادية.

وأهم ما جاء في تعديل قانون الأوقاف ما ورد في المادة (3) أنّ أموال الأوقاف التي تختص الهيئة بإدارتها واستثمارها هي الأوقاف المنصوص عليها في المادة (1) من القانون رقم 272 لسنة 1959م بتنظيم وزارة الأوقاف، كما فوّضت الهيئة إدارة الأوقاف الخيرية الموقوفة على الأزهر الشريف، والتي ينيب شيخ الأزهر الهيئة فى إدارتها واستثمارها، كما أن للهيئة أخذ نسبة بخصوص إدارة الأعيان وهى 10% من جملة إيراداتها، على أن يؤول صافي الإيراد بعد ذلك إلى وزارة الأوقاف لتقوم بتوزيعه على المستحقين[xiii].

ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية

يصل عدد الأوقاف في جمهورية مصر العربية كما يقول محمد القلموني وكيل وزارة الأوقاف المصرية إلى (38) ألف وقف؛ منها (22) ألف وقف خيري حتى عام 2003[xiv]، كما أن هناك دراسة تؤكد أن منذ عام 1952م إلى غاية تاريخ يونيو 2003م بلغت الأوقاف المسجلة بــ 390 حالة وقف خيري جديد، أي بنسبة (7.6 %)حالة وقف جديدة كل سنة[xv]. لكن الإحصاء الأخير الذي تمّ في عام 2018م، كشف عن معلومات قد تكون مفاجئة للعديد من الناس؛ إذ ذكر سيد محروس رئيس مجلس إدارة هيئة الأوقاف، إن إجمالي أملاك الهيئة يصل إلى تريليون و37 مليارًا و370 مليونًا و78 ألف جنيه [حوالي 2,280 مليار دولار أمريكي]، وفقًا للحصر الذي أجرته الهيئة مؤخرًا لأملاكها للمرة الأولى منذ إنشائها، وتضم خريطة الأوقاف في عموم مصر نحو 114 ألف وقف، وصار بعد هذا الحصر جميع الحُجج مسجلة ولها رقم قومي، يُمكن من خلاله التعرف على كل المعلومات الخاصة به. وأوضح أن مساحة الأطيان الزراعية للهيئة تبلغ 390 ألف فدان، بقيمة تقديرية 759 مليارًا و181 مليون جنيه [حوالي 50 مليار دولار أمريكي]، ومساحة الأملاك كالمباني والعقارات تبلغ 7 ملايين و391 مترًا مسطحًا، بقيمة تقديرية 136 مليارًا و824 مليونًا و95 ألف جنيه [حوالي 8 مليار دولار أمريكي]. وأن مساحة الأراضي الفضاء المملوكة لهيئة الأوقاف بلغت 9 ملايين و714 ألف متر، بقيمة تقديرية 141 مليارًا و364 مليون جنيه [حوالي 9 مليار دولار أمريكي].

كما أن إجمالي المتأخرات المستحقة للهيئة لدى الغير بلغ 2.3 مليار جنيه حتى 30 يونيو 2018، منها 261 مليون جنيه [حوالي 17 مليون دولار أمريكي] لدى الجهات والمصالح الحكومية، في حين تتمثل المستحقات في حصيلة النزاعات القضائية، مشيرًا إلى أنه خلال الشهرين الماضيين استطاعت الهيئة تحصيل مبلغ 192 مليون جنيه [حوالي 12 مليون دولار أمريكي] من مستحقاتها. وتابع أن الهيئة شكلت لجنة استثمارية بشأن الموقف المالي للشركات التابعة لها، بحيث تضم متخصصين في الاستثمار لوضع الخطة الاستثمارية للهيئة بالكامل، لافتًا إلى أن الهيئة لديها حاليًا سيولة مالية بمبلغ ملياري جنيه [حوالي 127 مليون دولار أمريكي]، منها مليار جنيه للخطة الاستثمارية[xvi].

كما أن إيرادات الهيئة في العام المالي 2017 /2018 بلغت مليارًا و210 ملايين و55 ألف جنيه [حوالي 77 مليون دولار أمريكي]، منها 450 مليون جنيه [حوالي 29 مليون دولار] إيرادات أطيان زراعية، و400 مليون جنيه [حوالي 25 مليون دولار] إيرادات إيجار أرض فضاء ومساكن ووحدات، علاوة على استثمارات أوراق مالية بقيمة 550 مليون جنيه [حوالي 35 مليون دولار أمريكي][xvii].

هذا الحجم الكبير من الأصول الوقفية، يمكن الاستدلال منه في بعض النماذج؛ ففي المجال الصحي، هناك العديد من المستشفيات الحكومية كانت أوقافًا إسلامية، وقد تنازلت عنها وزارة الأوقاف لوزارة الصحة مثل: مستشفى المنشاوي العام، وفي المجال التعليمي، كان الوقف هو الذي ينفق على الغالبية العظمى من الأنشطة التعليمية حتى بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، كالأوقاف على الأزهر الشريف.

ثالثًا) استشراف التجربة

على الرغم من عراقة وضخامة الموارد الوقفية في التجربة المصرية على مدار التاريخ الإسلامي، لكن هناك عدة تحديات تواجهها، فقانونيًا نجد ظاهرة التعدي على نسبة كبيرة من أملاك الأوقاف وبطء الإجراءات القانونية لاستردادها والبت في المنازعات القضائية.

فارتفاع حجم التعديات على أملاك وأراضي الهيئة منذ عام 2011م، وبلوغها خلال السنوات السبع الأخيرة نحو 20 ألفًا و50 فدانًا، بواقع 451 ألف متر على الأملاك والمباني، و926 ألف متر على الأراضي الفضاء، بما يعادل نحو 10% من إجمالي أملاك الأوقاف، وقال نقيب الصحفيين المصريين الأسبق ممدوح الولي: إن خسارة هيئة الأوقاف على مدار الأعوام بين 2010م و2018م بلغت نحو 226 مليون جنيه مصري [حوالي 14 مليون دولار أمريكي]، كما أنها لم تنشر أي بيانات مالية للعام 2019م، ولم تحقق أي أرباح طوال السنوات العشر الماضية، وهو ما يشير إلى أنها لم تقم بأي مشروع خيري خلال هذه الفترة. وحظيت هيئة الأوقاف المصرية بنصيب كبير في تقارير الهيئات الرقابية، من بينها تقرير للجهاز المركزي للمحاسبات الصادر عام 2016م، إتّهم فيه أجهزة الحكم المحلي بالاستيلاء على أكبر الأوقاف بمصر، وقد بلغت وقائع الفساد في الهيئة نحو 1895 قضية في عام 2016م فقط[xviii].

أما من الناحية الإدارية؛ فالإدارة غير الاقتصادية للأملاك الوقفية، تؤدي إلى تأجير واستغلال الأملاك الوقفية بحوالي ربع سعر السوق، مما يضيع على الأوقاف نسبة كبيرة من العائد على الأصول الوقفية، وهذا ما ينعكس على الناحية المالية مما يُضعّف القدرة على الأداء الوقفي نظرًا لضعف مستويات المداخيل ومحدودية الأصول والأملاك العقارية للنسبة العظمى من الشعب[xix]. هذه التحديات القانونية والإدارية والمالية انعكست على واقع مؤسسة الوقف بالعموم[xx]، كضعف ثقة المواطنين في إدارة مؤسسات الأوقاف، وعدم وجود جهات تنظيمية تعمل على التوعية بالوقف ودوره في المجتمع وتفعيل الوقف النقدي بتجميع الصدقات الصغيرة وتحويلها إلى وقفيات كبيرة، وأيضًا سيطرة الجهات الحكومية على الأوقاف، وعدم فتح المجال لمؤسسات المجتمع المدني للقيام بدور كبير في هذا المجال، والإدارة المركزية للإدارة الحكومية، وعدم إعطاء المرونة للأطراف في الإدارة المؤسسية.

هذه التحديات والانعكاسات السلبية على واقع مؤسسة الوقف في مصر، يمكن معالجتها إذ تم فتح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني للقيام بدور في إنشاء المؤسسات الوقفية، وتجميع الصدقات الصغيرة وتحويلها إلى وقفيات كبيرة، مستفيدة من جواز وقف النقود وما في حكمها، فضلًا عن سرعة البت في النزاعات القضائية على الأملاك الوقفية واستردادها عينا أو قيمتها، وتطوير المكنة الاقتصادية الاستثمارية للممتلكات الوقفية[xxi].