جمهورية العراق

أولًا) قراءة في التجربة

تعتبر العراق من أوائل الدول التي انتشر فيها الوقف منذ بدايات القرن الهجري الأول[i]، ثم تعزز ذلك لاحقًا مع انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد، ما عزز من حجم الأوقاف وتنوعها وزاد من أثرها في المجتمع العراقي، وهذا ما يجعلنا نقسم مراحل إدارة الأوقاف في العصر الحديث إلى[ii]:

أولًا) إدارة الاوقاف بعد تأسيس الدولة العراقية 1921، كانت الأوقاف تُدار من قبل الواقفين أنفسهم أو ممن يعين من قبلهم، بدون تدخل الدولة، – لا سيما قبل تأسيسها- لكن مع التطور واتساع مشاكل النظار وسوء الإدارة الفردية، تم إصدار القانون الأساسي للأوقاف عام (1929)، ونص في مادته (122)على أن دائرة الأوقاف الإسلامية من الدوائر الحكومية الرسمية، وتدار شؤونها وتنظم أمور ماليتها بمقتضى قانون خاص، وصدر قانون إدارة الأوقاف رقم 27 لعام 1929، وتم تشكيل دائرة للأوقاف 1929، ونظمت كمديرية عامة مرتبطة برئاسة الوزراء، ورئيس الوزراء هو المسؤول عنها، وقد توالت التشريعات والتعديلات على إدارة وتنظيم الأوقاف حتى عام 1958م. وفي عام 1976 تم استحداث وزارة للأوقاف لإدارة الممتلكات الوقفية ورعاية الشؤون الدينية، وصدر معها لاحقًا قانون رقم 50 لعام 1981، والذي تم بموجبه استثمار أموال الوقف، ما جعل الوزارة تشرع في عدة مشاريع سكنية وثقافية، ثم تم لاحقًا تأسيس هيئة استثمار أموال الوقف، وصدر لها قانون رقم 18 لسنة 1993، وصارت هيئة ذات شخصية معنوية مستقلة. لقد كانت الأوقاف كلها بنوعيها السني والشيعي تقع تحت نظارة ديوان الأوقاف رقم 44 لسنة 1970، والتي هي مرتبطة برئاسة الجمهورية باعتبارها الرئيس العام للأوقاف في الجمهورية[iii]، وهذا ما عزز من الحفاظ عليها رغم حالات الحرب والاضطرابات التي شهدها العراق.

ثانيًا) إدارة الأوقاف في العراق ما بعد 2003، بعد احتلال العراق عام 2003، وقع تغيير رئيس على جميع مفاصل الدولة، ومنها تفكك وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وتوزيعها على أساس مذهبي، فتم تأسيس ديوان للوقف السني، وآخر للوقف الشيعي، وثالث لأوقاف غير المسلمين، كما أن هناك وزارة للأوقاف في إقليم كردستان، ما يعني أن هناك أربع جهات مختلفة لإدارة الأوقاف في العراق، وتم إثبات هذا في الدستور العراقي لعام (2005). ولكن عمليًا فإن الوقف السني يشرف على الأوقاف الأكثر ظهورًا والأكبر حجمًا في العراق. وقد تم تأسيس ديوان الأوقاف السنية في 22 أكتوبر 2003، وإلغاء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، حيث يكون الديوان مسؤولًا عن أوقاف الوقف السني، وتم إصدار قانون رقم 56 لعام 2012م، والذي اعتبر الديوان بموجبه له الشخصية المعنوية، ومرتبط بمجلس الوزراء، وله هيئة إدارة واستثمار للممتلكات الوقفية[iv].

ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية

حسب تقديرات خبراء الأوقاف في حجم الممتلكات الوقفية التي تعود للوقف السني، فإن الأصول الوقفية لا تقل عن (12) مليار دولار، والريع السنوي يقدر بعدة مئات الملايين من الدولارات، والسبب في غياب التصريح والتقرير الرسمي، أن ميزانية الأوقاف كانت تشرف عليها وزارة المالية، ولا يطلع على الريع السنوي سوى وزارة المالية التي تقوم بتحصيل الريع الوقفي، ما يعني أن التقديرات الحقيقية للأصول الوقفية كانت محجوبة عن وزارة الأوقاف. وقد أدى احتلال العراق عام 2003م، إلى تقسيم الأصول والممتلكات الوقفية، ما أثر سلبًا على ضبط حجم الأصول والريع، علمًا أن هناك أكثر من (80) ألف حجة وقفية في بغداد وحدها، أي ما نسبته (98 %) من أصول الأوقاف تتبع لديوان الأوقاف السنية، فعقار واحد من وقف الإمام أبو حنيفة يقدر بـ: (23.000) دونم زراعي – الدونم في العراق يساوي (2700) متر، – كما تذكر بعض الدراسات أن ثلث مساحة البصرة هي أوقاف إسلامية، وفيها أكثر من (4000) ملكية وقفية، ويذكر البعض أن امرأة واحدة فقط حبست حوالي (164) عقارًا على امتداد (6) كلم في مدينة بغداد.

أما فيما يخص أساليب تنمية واستثمار أموال الوقف فهي تتم عن طريقة الاستثمار الذاتي، مثل صيغ الإجارة، واستثمار الأراضي الزراعية، والمضاربة والمرابحة والمشاركة، أو عن طريق الاستثمار الخارجي، كالاستثمار والمشاركة مع جهات استثمارية خارجية. فمن مشاريع ديوان الوقف السني إنشاء مصرف إسلامي، وتأسيس جامعة أهلية، وإقامة المراكز الترفيهية والتجارية والطبية في محافظات العراق كافة.

ويمكن إجمال الأصول الوقفية فيما يلي: أملاك تجارية (10000) ملك وقفي، أما الأملاك السكنية فتصل إلى (3500) ملك وقفي، أما الأملاك الزراعية فتقدر بــ (3450) ملك وقفي، كما أن هناك أملاكًا تؤجر للنفع الخيري تقدر بــ (1000) ملك وقفي، ويبلغ متوسط الإيرادات أكثر من (10.000.000$)، في حين تقدر المصروفات الإدارية بــ 10% من إجمالي الإيرادات.

ثالثًا) استشراف التجربة

على الرغم من الحجم الكبير للأوقاف في العراق منذ الفتح الإسلامي، ونموها بصورة انعكست على التنمية المحلية بصورة واضحة حتى أصبحت موردًا كبيرًا بعد مورد النفط والزراعة، إلا أنها عانت من عدة معوقات قللت من فعاليتها وأثرها الاجتماعي، من أبرزها ضعف التشريعات التي ساهمت في عدم تعزيز حضورها الاستثماري والاجتماعي في المجتمع العراقي. وعلى الرغم من وجود هيئة للاستثمار، لكن الأداء الاستثماري لم يكن يتناسب بالمجمل مع الحجم الكبير لهذا المورد، ولم يُوجد توجه حقيقي لدى الدولة لتعظيم الاستفادة من هذه الموارد الكبيرة. ومن العوائق الأخرى غياب الحوكمة والشفافية عن الأداء المؤسسي الوقفي، فعلى سبيل المثال كان مال الوقف يُحصل من قبل وزارة المالية، في حين أن للوقف وزارة قائمة، وهذا ما جعل من الصعوبة التحري عن ضبط الأصول الوقفية وريعها، فضلًا عن ذلك كله فإن ظروف الحرب التي عاشتها العراق في العقود الماضية، لا زالت آثارها السلبية قائمة حتى الآن، ما أثر سلبًا على الأوقاف الإسلامية. وقد أدى ذلك إلى الاعتداء عليها، بل وصل الأمر إلى تدمير الأوقاف الدينية – كهدم المساجد بصورة واضحة – ونزع الملكيات عنها بالقوة والقهر وتحت ضغط السلاح، وتغيير واقع هذه الأصول، وتحريف مصارفها إلى جهات غير مستحقة. ومن الواضح أن تعطل فاعلية الأوقاف سيستمر خلال السنوات القادمة بسبب غياب الحوكمة، بل واحتمال ضياع جزء لا يستهان به من الأوقاف بسبب بعض التشريعات التي صدرت مطلع 2021م من وزارة الأوقاف والتي تقضي بتملك الأصول الوقفية بناء على مناطق وجودها وطبيعة سكان تلك المناطق وانتماءاتهم الطائفية مما يعطي مبررًا للاستيلاء على الأوقاف السنية والتي هي معظم أوقاف العراق