الجمهورية اللبنانية

أولًا) قراءة في التجربة

كان لبنان يخضع إداريًا للدولة العثمانية[i]، وكان يقع تحت سلطة ثلاث ولايات، طرابلس وبيروت وصيدا، ولكل ولاية مجلس أوقاف تابع للنظارة العامة في الآستانة يعينه السلطان العثماني، ومهمته الإشراف على الأوقاف الخيرية ومحاسبة نظار الأوقاف الذرية، وبقي الأمر هكذا حتى الاحتلال الفرنسي عام 1918، الذي أشرف على الأوقاف وأنهى صلة الأوقاف بهذه الولايات بمقر الآستانة، وجعل هذه الأوقاف مرتبطة به من خلال إصدار قرار رقم 753 عام 1921، لكن للأسف ساهمت هذه السلطة الفرنسية في ضياع أوقاف الأوزاعي، وأوقاف الخضر حيث كانت مساحته الكلية 75.903 متر مربع، وعام 1934 صار العقار يبلغ مساحة 4.733 متر مربع، وآل كله لمصلحة سكة الحديد [ii]. وفي عام 1930 فصلت الأوقاف اللبنانية عن السورية، وصارت تحت إشراف الحكومة اللبنانية يشرف عليها أكبر موظفي السنّة في الحكومة، ثم تم إنشاء مديريات الأوقاف في المحافظات[iii].

وبسبب التركيبة الطائفية في لبنان، فقد ترك الدستور لكل طائفة أن تنظم أوقافها وإداراتها من خلال مرجعيتها الدينية، وعندما تم تعيين مفتي الجمهورية اللبنانية عام 1932م، ثم اعتماد المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، أصبحت الأوقاف تحت سلطتهم، واستمر هذا الأمر من مرحلة الاستقلال 1943م حتى عام 1956 بجعل المجلس هو من يدير أوقافه[iv]، ولتحقيق ذلك هناك عشر دوائر وإدارات وقفية موَزَّعة على المحافظات والمناطق اللبنانية، ولكل دائرة أوقاف محلية مجلس أوقاف إداري، ويرأس المجلس الإداري للأوقاف في المحافظة أو المنطقة عادة المفتي. ويعتبر نظام الوقف في لبنان من أكثر أنظمة الوقف مرونة ليس بين بلدان شرق المتوسط فحسب، بل بين البلاد العربية جميعها”[v]، نظرًا للصلاحيات التي كانت معطاة للمجلس الشرعي الإسلامي في تطوير القوانين الخاصة بالوقف. وفي الحرب الأهلية عام 1975 تأثرت العقارات الوقفية كثيرًا، علمًا أن إدارة الأوقاف تملك ثروة عقارية كبيرة في لبنان، ففي عام 1989 تم إحصاء الممتلكات الوقفية بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية بجدة وبتمويل منه، لكن بدون أن يتم الاستفادة منها فعليًا، فقد تم رصد (1974) عقارًا وقفيًا، وقد بلغت قيمة الريع الوقفي لعام 1997 ما يقارب 2.2 مليون دولار أمريكي، علمًا أن تقديرات الاستثمارات الوقفية لا تتجاوز سوى 10% من عدد وقيمة الأملاك الوقفية[vi]. وكان هناك توجه لتطوير الأصول العقارية من خلال عدة دراسات هامة، كدراسة شركة تيم بين أعوام 1983-1989، وهي دراسة عقارية، ودراسة شركة بوزآند آلن عام 2010، وهي دراسة إدارية تنظيمية، ثم أخيرًا دراسة لجنة المجلس الشرعي عام 2018م، وهي دراسة شاملة في التخطيط الاستراتيجي[vii]. وفي المحصلة أن النشاط الوقفي في لبنان يحتاج إلى تطوير للتغلب على المصاعب التي واجهها منذ الاحتلال الفرنسي ومرورًا بالحرب الأهلية إلى الأزمات الاقتصادية والتعقيدات الإدارية التي أثرت سلبًا على ممتلكات الأوقاف، ما يعني ضرورة إحداث تغيير رئيسي في مجال الإدارة والاستثمار.

ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية

تحوز لبنان على أكثر من 6000 وقف عقاري، منها 768 مسجدًا، وفي عام 2017 كانت مداخيل العقارات الوقفية في لبنان حوالي 11.3 مليار ليرة لبنانية [= 1.280 دولار أمريكي]، وأغلب الريع يأتي من صيغ الأجرة والكراء (80٪)، في حين تشكل التبرعات حوالي 1%، كما هو موضح في الشكل التالي[viii]:

ولقد ساهمت الإدارة الوقفية في إنشاء بعض النماذج الوقفية، منها استثمار العقار، رقم 172 في منطقة المرفأ العقارية، مقابل بدل إيجار سنوي مقداره (126،000) ألف دولار أمريكي، واستثمار العقار رقم 1151بمنطقة المرفأ العقارية، ومتضمن عقد الاستثمار بدلًا مقطوعًا تستوفيه الإدارة الوقفية من المجموعة المنفذة مقداره 50،000$+ 350000 دولار أمريكي، وغيرها من المشاريع. أما ما يتم صرفه من ريع الأوقاف، فالمعلوم أنه لا يعرف الريع المخصص لكل وقفية في لبنان، حيث يعامل ريع الوقف كله كأنه كيان واحد، وتم إلغاء شرط الواقف في عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وصارت مداخيل الأوقاف عام 2020 تصرف على رواتب العاملين بنسبة 37٪، ومساجد بنسبة 15٪، والتعليم الديني بنسبة 13٪، ومصاريف تشغيلية بنسبة 20٪، وصيانة وترميم بنسبة 1٪، وديون وموازنات بنسبة 5٪، وضرائب ورسوم بنسبة 8٪، كما في الشكل التالي[ix]:

في المقابل، نجد أن هناك تجارب وقفية خاصة موزعة في الجمهورية اللبنانية، وقد تمثل تجارب آخذة في التطور وسد الاحتياجات المجتمعية، ونضرب على سبيل المثال لا الحصر، جمعية المقاصد الخيرية في بيروت، والتي تضم عدة عقارات وقفية مميزة، وأكثر من 12 مدرسة تعليمية، ومستشفى جمعية المقاصد وكلية الطب، بالإضافة إلى مشاريع استثمارية تغطي أعمال الجمعية[x].

ثالثًا) استشراف التجربة

على الرغم من أن لبنان كانت في أواخر حكم الدولة العثمانية معقلًا للأوقاف، حيث وجدنا فيها ثلاث ولايات رئيسية، وهي طرابلس وبيروت وصيدا، ولكنها للأسف تعرضت لعدة صعوبات أثرت سلبًا على قطاع الأوقاف فيها، بدأت بالدور السلبي للمحتل الفرنسي، والذي ساهم فعليًا في تضييع الأصول الوقفية للمسلمين، وانتهاءً بالحرب الأهلية التي ساهمت في المزيد من ضياع العديد من الأصول الوقفية، فعلى سبيل المثال أكثر من نصف عدد العقارات الوقفية يقع في الأسواق التجارية التي تعرضت للهدم أثناء الحرب الأهلية، الأمر الذي ساهم بفقد أصول كثيرة وريع متدفق كان يغطي احتياجات مؤسسة الوقف، فضلًا عن تدني فعالياتها[xi]، وأخيرًا بالقوانين والتشريعات التي لم تمكن المسلمين من تنمية أصولهم بجدية، واستعادة ما ضاع منها خلال الفترة الماضية، يضاف إلى ذلك ضعف الكادر البشري المتخصص في الاستثمار والتنمية، ونقص التمويل للعديد من المشاريع الوقفية، ووقوع بعض حالات الفساد واستبدال العقارات الوقفية، ما أسهم في تدني فعالية قطاع الأوقاف للمسلمين في لبنان.