) دولة ليبيا
أولًا) قراءة في التجربة
نشأ الوقف الإسلامي في ليبيا مع الفتح الإسلامي لها عام 23ه/ 643 م[i]، ولا شك أن المسجد هو اللبنة الأولى لصرح هذه المؤسسة العريقة، ومنذ ذلك التاريخ والوقف في ليبيا يتطور باطراد بسبب طبيعة عقد الوقف الذي يخرج المال الموقوف من دائرة التصرفات الناقلة للملكية[ii]. إلّا أن مؤسسة الأوقاف الليبية تعرضت للإهمال والتهميش خلال عهود سابقة كان آخرها عهد السياسة الشمولية التي انتهجتها الدولة في الفترة ما بين 1969-2011م، وما نتج عنها من تفويت أملاك الوقف، وتغييب دوره التنموي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها من المجالات التي تطفح بها مقاصده وأبعاده المصلحية[iii]. أما إدارة الأملاك الوقفية في ليبيا فتخضع إلى أحكام الشريعة الإسلامية وأوامر القضاء، حيث تُدار الأملاك الوقفية بين النظارة الأهلية (النظار) والنظارة الرسمية (الهيئات والمؤسسات التابعة للدولة)، حيث عرف التنظيم الإداري للأوقاف من خلال مراحل متعددة، آخرها مرحلة ما بعد ثورة 17 فبراير 2011م.
أما الجانب التشريعي والإداري للأوقاف، فلقد صدرت بليبيا عدة تشريعات تولّت تنظيم الوقف وبيان أحكامه؛ منها[iv]: النصوص المنظمة للوقف الواردة بالقانون المدني الصادر في 28 نوفمبر 1953م، وقانون المرافعات المدنية، وقانون نظام القضاء المؤرخ في 29 يونيو 1962م وتعديلاته، والقانون 10/1971 المتعلق بإنشاء الهيئة العامة للأوقاف[v]، والقانون 124/1972 المتعلق بالأوقاف، والقانون 16/1973 المتعلق بإلغاء الوقف على غير الخيرات، والقرارات الصادرة عن اللجنة الشعبية العامة – سابقًا – ومجلس الوزراء حاليًا بخصوص تنظيم مؤسسة الوقف وتحديد اختصاصاتها.
ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية
يقدر عدد الأملاك الوقفية العقارية في ليبيا إلى غاية سنة 1220م بـــ: 18000 ملك وقفي مُقسمة على النحو التالي: 11000 أصل عقاري وقفي، 6000 مسجد [وقف ديني]، 1000 مدرسة وكُتاب وزاوية [وقف تعليمي] [vi]، في حين إن قيمة الأصول الوقفية المنقولة في ليبيا تتشكل من: أرصدة نقدية بالمصارف تزيد قيمتها عن 160 مليون دينار ليبي [حوالي 36 مليون دولار أمريكي]؛ وهي تمثل إيرادات الأوقاف الريعية وتعويضات عن بدل للأوقاف، أو ديون مستحقة للأوقاف تزيد عن 500 مليون دينار ليبي [ تساوي 110 مليون دولار أمريكي]، تمثل قيمة الأجرة المستحقة مقابل الانتفاع بالعقارات الموقوفة، كما أن الأوقاف الريعية في ليبيا تمثل 50% تقريبًا من إجمالي الأصول الوقفية؛ غير أن المستغل منها لا يتعدى 25% كما يرى المدير العام السابق لمديرية الأوقاف في دولة ليبيا[vii]. وظهرت عدة نماذج وقفية في ليبيا خلال الفترة الماضية، أبرزها أربعة مبان إدارية وقفية جديدة – ثلاثة منها في مدينة طرابلس وواحدة في مدينة مصراتة- ؛ تبلغ قيمة المشروع الإجمالية: 26.950 مليون دينار ليبي؛ [ تساوي 5.9 مليون دولار أمريكي]، في حين يبلغ الإيراد السنوي الإجمالي لهذه المباني ـ: 1,740,000 دينار ليبي [ يساوي 380 ألف دولار أمريكي][viii].
ثالثًا) استشراف التجربة
تعرضت التجربة الليبيبة لعدة تحديات وعوائق حقيقية، من أبرزها انحسار رصيد الوقف من الأصول الوقفية الريعية في مقابل ارتفاع رصيد الأصول الوقفية الخدمية، وعدم توفر كثير من المعلومات والبيانات الفنية والمالية والإدارية للأصول الوقفية، بسبب ضياع السجلات والوثائق الوقفية، فضلًا عن تراكم النقدية بالمصارف وارتفاع الديون المستحقة للأوقاف على الجهات العامة والخاصة، مع افتقار المؤسسة للوثائق المؤيدة وشغل الأصول الوقفية دون عقود إيجار، وتعاقب المنتفعين عليها دون تسوية التزاماتهم السابقة.
كما أن التجربة تُظهر بوضوح عدم تناسب إيرادات الأوقاف السنوية مع نفقاتها، فهناك إشكاليات شرعية وقانونية ومحاسبية وإدارية تعرقل الانتفاع بأملاك الوقف واستثمارها، كعدم حصر الأصول وعدم تسجيل المحصور منها، بالإضافة إلى افتقار المؤسسة وفروعها إلى المقرات التي تتناسب مع نشاطها وعدد موظفيها، وافتقارها إلى أماكن حفظ الوثائق والسجلات وتصنيفها واستخراج بياناتها شكلت عوائق حقيقية، وأخيرًا حالة عدم الاستقرار في السنوات الأخيرة والمشاكل الأمنية التي تمر بها البلاد ساهم بشكل كبير في عدم قدرة الأوقاف على تنفيذ أغلب المشاريع التنموية في المدن الليبية[ix].
والملاحظ أن التجربة الليبية واجهت مشاكل في الجانب التشريعي، فهي بحاجة إلى إعادة النظر في تشريعات الوقف وتحديثها، وإعداد مشروع قانون يتضمن الإطار القانوني واللائحي والتنظيمي لمؤسسة الوقف. وهذا يدفعها إلى العمل على إنشاء هيئة مستقلة لإدارة الوقف ومنحها الذمة المالية والشخصية الاعتبارية، والعمل على حصر الأصول الوقفية وجمع البيانات عنها وتقييمها، وإعادة النظر في العقود المبرمة بشأنها، واستثمار الأصول ذات المردود الاقتصادي، والتأسيس لنظارة أوقاف مؤسسية فاعلة وتشجيع النظارة الأهلية.
كما أن التجربة يلزمها الشروع في إعداد نظام محاسبي متكامل، ينظم كافة التصرفات التي ترد على الوقف وعقوده وسجلاته وأنظمته المحاسبية ودورته المستندية، ويضمن خصوصية أملاكه، وربطه بالتقنيات الحديثة، واعتماد بدل الإيجار المثل وتطبيقه على كامل الأوقاف الموجودة على التراب الليبي مثلما تمّ في مكتب أوقاف طرابلس بعد عام 2012م