الجمهورية المورتانية

أولًا) قراءة في التجربة

لقد عرفت موريتانيا الوقف شأنها شأن باقي بلاد المسلمين[i]، لكن في صور بسيطة تتناسب مع الحياة البدوية التي سيطرت لعدة قرون على حياة المجتمع الموريتاني. وتجلت مظاهره في تشييد المساجد، المحاضر[ii] وحفر الآبار، وقد اعتمد أئمة المساجد وشيوخ المحاضر، ومن يريد الحج إلى بيت الله الحرام، على ريع تلك الأوقاف، كما اعتمد عليها الفقراء والأيتام، والمحتاجون. وقد ظل الوقف قائمًا على هذا النحو في موريتانيا منذ أن دخلها الإسلام منذ القرن الثامن بفضل التجار المسلمين الذين قدموا إليها، إلّا أنه لم يكن للوقف تاريخ مدوّن يمكن الرجوع إليه باستثناء ما دُوِّنَ في بعض الفتاوى والنوازل الفقهية، وما عُرف من المساجد وبعض الوقفيات[iii]

وضع الأوقاف ما قبل الاستقلال يشير إلى أن الأوقاف كانت غالبًا من الأوقاف المنقولة كالحيوانات والمواشي، وبعض الأوقاف العامة وذلك لطبيعة حياة البداوة، فلما جاء الاستعمار الفرنسي لم يهتم قطعًا بتنظيم أحوال هذا القطاع، أما بعد الاستقلال فأنشات الدولة قسمًا للأوقاف بوزارة العدل، وصارت هناك ثلاثة أصناف للوقف، وهي الأوقاف الحيوانية، بعضها موقوف على المدارس، ويسميها أهل موريتانيا بالمحاضر، وصنف مخصص للعقارات والحدائق، وصنف هي الأوقاف الحكومية، كسوق تجاري تابعة لمسجد المشيخة في نواكشوط[iv].

أما نظام الوقف كعمل مؤسسي فلم تعرفه موريتانيا إلّا خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وبعد مضي حوالي عقدين من الزمن على الاستقلال رأت السلطة الحاكمــة أنــه لــم يعــد بالإمــكان تــرك الوقــف بدون تنظيــم، فأصــدرت أول نــص في تاريــخ البلــد يتعــرض لتنظيــم الوقــف،وهــو المرســوم رقم 82/119الصــادر بتــــاريــخ 09 أكتوبر 1982م القاضي بإنشاء “مكتب الأوقاف الموريتاني” الذي وصفه المرسوم بأنه مؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري[v]. وتظهر لنا هذه البداية المتأخرة عن باقي دول المنطقة أن هناك اهتمامًا من قبل الدولة الموريتانية بالوقف، ويتجلى ذلك من خلال إنشاء مصلحة للوقف تابعة لإدارة التوجيه الإسلامي في عام 1976م، ثم في عام 1982م تطورت هذه المصلحة لتنشأ مؤسسة مستقلة ذات طابع صناعي وتجاري وذلك بموجب المرسوم 82/119 المؤرخ في 09 أكتوبر 1982م، والذي كان موضوعًا لعدة تعديلات بموجب المرسومين الصادرين على التوالي: 1984م، 1997م، وكذا بموجب المواد الثلاثة (816، 817، 818) من قانون الالتزامات والعقود المتعلقة بأحكام الوقف، ثم في عام 1986م، وبموجب الأمر القانوني 279/86 المنظم للبلديات أصبحت الشؤون المتعلقة بالمساجد، المقابر من اختصاص البلدية على اعتبار أنها أوقاف تلقائية[vi]. وفي دستور 20 يوليو 1991م، والذي نص في مادته [15] على احترام تخصيص الأملاك الوقفية وحماية القانون لها، هذا بالإضافة إلى العديد من القوانين والمراسيم المنظمة لمؤسسة المسجد والمُبيّنة لصلاحياتها[vii]. وفي 28 يونيو 1997م وبموجب المرسوم 57/1997 تمّ إنشاء مؤسسة وطنية للأوقاف، والتي ما زالت تعمل إلى وقتنا الحاضر[viii].

هذه التشريعات كان لها الصدى من الناحية الإدارية، لكن للأسف بسبب غياب المؤسسة عن إدارة واقعية مباشرة للأوقاف سواء على المستوى المركزي أو على المستوى اللامركزي الذي يظهر فيه غيابها أكثر، وهذا ناتج عن اعتماد إدارة الوقف والمؤسسات الوقفية على القواعد والشروط التي وضعها الواقفون أنفسهم وأثبتوها في حججهم الوقفية دون تدخل من أي سلطة إدارية حكومية.

وبالرجوع إلى المرسوم المتضمن إنشاء المؤسسة الوطنية للأوقاف نجدها تسعى إلى تحقيق العديد من الأهداف، نذكر منها[ix]: حصر وتنمية وحماية جميع الأملاك الوقفية في البلد؛ ومساعدة الهيئات الإسلامية خاصة في المجال الاجتماعي والاقتصادي؛ ورقابة أماكن العبادة الإسلامية وصيانتها وتجهيز المساجد والمحاضر، والمقابر، وتعيين المسؤولين عليها والإشراف على النشاطات المتعلقة بها؛ وأيضًا السهر على تهذيب ورعاية اليتامى ومساعدة الفئات الفقيرة؛ وتسيير كافة الأموال الموقوفة؛ والعمل على إمكانية القيام بمشاريع تنموية واستثمارية في مجالات مختلفة.

ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية

الأملاك الوقفية غير معروفة بشكل دقيق لدى المؤسسة الوطنية للأوقاف، سواء تعلق الأمر بأعداد المساجد وغيرها من الأوقاف الخيرية الأخرى. أمّا الأوقاف الأهلية فلم تكن أصلًا معروفة عند المؤسسة نتيجة عدم تسجيلها من قبل أصحابها لدى المؤسسة من جهة، وعدم إشراف المؤسسة عليها من جهة ثانية، غير أن هذا لا يمنعنا من إعطاء بعض الإحصاءات لسنة 2018م والمستقاة من أحد خبراء الأوقاف في موريتانيا، وهو مدير المركز الموريتاني لعلوم الوقف[x]:

الأوقاف العامة: فحجم العقار الوقفي يقدر بــ 700.000دولار أمريكي، أما حجم الأوقاف المنقولة فيقدر بــ 31.847دولار أمريكي، أمّا الريع الناتج عن هذه الأوقاف فيُقدر بــ 183.000 دولار أمريكي مقسمة على الشكل التالي: ريع الوقف العقاري: 168.000دولار أمريكي، ريع الوقف المنقول: 15.000دولار أمريكي[xi].

الأوقاف الخاصة؛ فقد بلغ حجم الوقف العقاري فيه 1.800.000دولار أمريكي، أما الوقف المنقول: 90.000دولار أمريكي. أمّا الريع الناتج عنها فيُقدر بــ 928.000 دولار أمريكي مقسمة على الشكل التالي: وقف عقاري: 900.000دولار أمريكي، وقف منقول: 28.000دولار أمريكي. أما ميزانيـــــــــة المؤسســــة الوطنية الأوقاف سنة 2006م فكانت تقدر بــــ : 40.884.000 أوقية ما يقارب 114.521دولار أمريكي، موزعة على النحو التالي[xii]: الإيجار: 3.440.000 أوقية ما يقارب حاليا 9.600 دولار أمريكي، أما عائدات بيع السيارات: 1.000.000 أوقية ما يقارب حاليا 2.800 دولار أمريكي، والدعم من وزارة المالية يقدر بـ 25.000.000 أوقية ما يقارب حاليا 70.000 دولار أمريكي، أما الدعم من وزارة الشؤون الاقتصادية والتنمية: 8.000.000 أوقية ما يقارب حاليا 22.400 دولار أمريكي، في حين تقدر هبات ومساعدات: 444.000 أوقية ما يقارب حاليا 12.400 دولار أمريكي. هناك اهتمام متأخر من قبل الدولة بالقطاع الوقفي، ولقد تم إعداد مشروع قانون للأوقاف، ولعل وجود المركز الموريتاني لعلوم الوقف يعتبر خطوة هامة للتوعية الشعبية، بالإضافة إلى عشرات البحوث والدراسات المنجزة[xiii].

ثالثًا) استشراف التجربة

نلحظ أن التجربة الموريتانية بدأت متأخرة، ولم تستفد من واقع الأوقاف في شمال أفريقيا، لا سيما من جارتها المغرب، وهذا ما ضاعف عليها الصعوبات والتحديات، فهناك قصور في التشريعيات والقوانين التي تنظم قطاع الأوقاف وتنظيم إدارته، وغياب المؤسسية والاستقلالية، وضعف الأوقاف الاستثمارية، يوازي هذا غياب الوعي المجتمعي بأهمية مورد الوقف للمجتمع ودوره الاقتصادي، وقلة الكفاءة الحكومية للإدارة الأوقاف[xiv].

يوازي هذه الصعوبات التشريعية والإدارية تحديات تشغيلية، فمحفظة الأوقاف التي تشكل فيها الأراضي غير المستصلحة والمباني البسيطة حوالي ( % 90 ) من المحفظة الحالية للأوقاف، ما يجعل الاستثمار ضعيفًا، وقلة البيانات المكتملة حول عدد الأعيان الموقوفة، أو قيمة الأصول، أو الغلال، أو المصارف، وقصور استخدام التقنية، كل هذه تجعل من الصعب إطلاق الوقف كمحرك رئيسي في الدولة[xv].

وينعكس هذا بالمطلق على الإدارة الاستثمارية للوقف، فالقدرات والإمكانيات البشرية ضعيفة، وتحتاج تأهيلًا وتطويرًا، وغياب الحافز لإدارة الأوقاف على الوجه الأمثل، وعدم وجود مؤشرات أداء واضحة، أو إدارة واضحة لأداء الموظفين، كما أن استراتيجية الاستثمار قد تكون غير شاملة ومتخصصة في إحياء هذه الأصول المفرقة، وليس لها القدرة على استقلال الأوقاف النقدية وتحريكها في تمويل المشاريع الوقفية. كما أن المصارف الوقفية غالبًا ما تكون خدمية أو دينية لتغطية احتياجات الأوقاف الدينية أو الاجتماعية، وليس هناك خطط لجعل الأوقاف تنموية كي تنمو استثماريًا وتتوسع اجتماعيًا بمصارفها، والتركيز فقط على المساعدات الخيرية.

لكن مع هذه الصعوبات والتحديات الحقيقية، يمكن للتجربة الوقفية الموريتانية النهوض والتطور، إذا ركزت على الآتي[xvi]: تطوير الجوانب القانونية والتشريعية، مثل إصدار قانون خاص بالأوقاف، ووضع تشريعات مرنة تلائم الاحتياجات الراهنة، وتعديل المرسوم المنشئ للمؤسسة الوقفية، بما يطور عملها ويخدم القطاع الوقفي بصفة عامة، وتعزيز الرقابة والشفافية. لكسب مصداقية الواقفين والمجتمع، وتعبئة المجتمعية تجاه الوقف.

تطوير الجوانب الإدارية والمالية، كإعادة هيكلة المؤسسة الوقفية، والاستفادة من التجارب الوقفية في العالم الإسلامي، وتطوير أساليب الاستثمار، لا سيما الاستثمار العقاري، وتقديم منتجات وقفية تناسب المجتمع، وتستقطب أوقافًا متنوعة عقارية منقولة نقدية لتمويل المشاريع الوقفية، وتزيد من معدلات العائد على استثمار الأوقاف.