أولًا) قراءة في التجربة

تعتبر التجربة السعودية في مجال الأوقاف من التجارب المميزة في العالم الإسلامي، وذلك لعدة عوامل موضوعية يمكن إبرازها في أنها بلاد الحرمين الشريفين، وهي محط أنظار المسلمين منذ عصر الإسلام، وفيها أول وقف في الإسلام، مسجد قباء والمسجد النبوي، ومعقل أوقاف الصحابة رضي الله عنهم، وقد شهدت هذه الأرض المقدسة – بسبب مواسم الحج والعمرة – استقطاب أوقاف عديدة جاءت من الخارج أسهمت في إنشاء بنية وقفية عريقة استمرت منذ عهد الرسالة، وساهمت هذه البنية في تأسيس بيئة جاذبة لصالح الوقف داخل المجتمع السعودي. كما أن الطفرة الاقتصادية التي شهدتها المملكة منذ اكتشاف النفط، فضلًا عن الحركة العقارية النشطة التي أصابت أصول الأوقاف العقارية فأثرت إيجابًا في تنمية الأصول الوقفية، وتعظيم ريعها، وفضلًا عن اهتمام الدولة السعودية الحديثة بالأوقاف منذ تأسيسها، إذ تم تأسيس أول إدارة للأوقاف عام (1344هـ/1928م)، ثم إصدار قانون نظام مجلس الأوقاف الأعلى عام (1386هــ/1966م)، ثم اللائحة الداخلية عام (1393هـ/1973م)، وقد كانت الأوقاف ملحقة مع وزارة الحج، إلى أن تم فصلها عنها عام (1414هــ/1994م)، ليتم تسميتها بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ثم أخيرًا تم فصل ملف الأوقاف عن الوزارة، وتأسيس الهيئة العامة للأوقاف والموافقة على نظامها عام (1437هـــ./2016م). كما أن المشاركة الإيجابية لرجال وسيدات الأعمال في الإسهام في تأسيس أوقاف فردية أو عائلية ساهمت في تطور التجربة السعودية، ثم لاحقًا إنشاء لجان الأوقاف في الغرف التجارية والتي تجاوزت الـ (12) لجنة في مناطق المملكة، وتعتبر اللجان الأكثر نشاطًا لجنة الأوقاف في الرياض، والمنطقة الشرقية، ومكة المكرمة.

وتعدد المراكز الاستشارية وبيوت الخبرة في تنظيم الأوقاف في شتى مناطق المملكة، حيث تقدم خدمات فنية للواقفين الجدد، ككتابة الوثائق وتنظيم الصكوك الوقفية، وتعقد دورات تدريبية وتأهيلية لموظفي الأوقاف، هذا التعدد ساهم في تعزيز البيئة الوقفية داخل المجتمع السعودي، وساهمت أيضًا التشريعات والقوانين التي ساهمت في تطوير بنية المؤسسة الوقفية، ويسرت على الأفراد والعائلات تأسيس أوقاف خاصة بهم.

ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية

هناك عدة قراءات لحجم الأصول الوقفية في المملكة، ولكنها كلها تجمع على أن الأصول الوقفية الخاصة للأفراد والعائلات تتجاوز قيمة الأوقاف العامة التي تشرف عليها الهيئة العامة للأوقاف. فمن المعلوم أن حجم الأوقاف في المملكة يُعد كبيرًا ومتنوعًا؛ وبناءً على التقديرات المتوافرة فإن المجال الوقفي في المملكة في ارتفاع مطَّرد؛ لكن من الصعب تحديد حجم الأوقاف بدقة؛ وذلك لعدم وجود قاعدة بيانات يُمكن الرجوع إليها، أو تقارير رسمية تثبت حجمها، أو دراسات ميدانية توضح عددها، وهذه من التحديات التي تواجه الهيئة، فقامت مؤخرًا ببناء قواعد بيانات لأكثر من (8500) وقف، وتحديد أرصدتها، وإيراداتها، وشروط الواقفين.

وحسب تصريح للدكتور عبدالله اليحيى، الأمين العام لمجلس القضاء الأعلى سابقًا، أن قيمة أصول الأوقاف في المملكة تتجاوز 354 مليار ريال، [ يساوي 95 مليار دولار أمريكي]، منها 300 مليار ريال تخص الأوقاف الأهلية بما يقارب [ يساوي 80 مليار دولار أمريكي]، فيما تبلغ قيمة أصول الأوقاف العامة 54 مليار ريال، [يساوي 15مليار دولار أمريكي]، تُشرف الهيئة العامة للأوقاف على أعداد أعيان الأوقاف العامة المرصودة بنحو (30) ألف وقف، وفي دراسة أخرى تبحث في أصول الأوقاف في المملكة، تظهر وفق الجدول الآتي قيمة الأصول والإيرادات لعام 2020:

وتؤكد هذه الدراسة أنه يوجد في  المملكة عام 2020 أكثر من 113.000 ألف مؤسسة وقفية تبلغ قيمة أصولها الوقفية بما يقارب 235 مليار ريال سعودي، كما أن 53% من نفقات الأوقاف العامة لعام 2020 تُصرف على خدمة المشاعر المقدسة، 26% لخدمة المساجد، 9% لمواجهة جائحة كورونا، 5% لتطوير التعليم، والباقي لمصارف أخرى.

فضلًا عن أن الأوقاف الأهلية تسهم بنحو (49 %) من الموارد المالية للمؤسسات والجمعيات الخيرية في المملكة، وأن العقار يمثل ما نسبته (80 %)من الأوقاف العامة التي تشرف عليها هيئة الأوقاف، وتقدر حجم العائدات السنوية التي تحققها الأوقاف العامة بــ (325)مليون ريال سعودي، [ يساوي 87 مليون دولار أمريكي].

وتسعى الهيئة لتعزيز دور الصناديق الوقفية الاستثمارية، من خلال التعاون مع هيئة الأسواق المالية، فتم إطلاق أربعة صناديق استثمار وقفي عام (2018م) في مصرف الإنماء، وسيتم توزيع جزء من العائدات على مصارف الوقف المحددة. وتعتبر التجربة السعودية في مجال الأوقاف الخاصة من التجارب المميزة في العالم الإسلامي، فمن نماذجها القائمة وقف الملك عبد العزيز، برأسمال يقارب ملياري دولار، وهو مشروع استثماري يتكون من (7) أبراج عملاقة، على مشروع مساحته مليون و(500) ألف م2، ومخصص للصرف على الحرم المكي الشريف، وكذلك أوقاف سليمان الراجحي، التي تعتبر من أكبر الأوقاف الخاصة في العالم الإسلامي، وغيرهما الشيء الكثير.

ثالثًا) استشراف التجربة

على الرغم من تقدم التجربة السعودية في مجال الأوقاف، لا سيما الأوقاف الخاصة، إذ تعتبر من التجارب المميزة في العالم الإسلامي، وتشكل ريادة واضحة في هذا الصدد، إلا أن هناك تحديات وعوائق تواجه هذه التجربة، من أهمها عدم توثيق بعض الأوقاف، حيث إن هناك إقبالًا واضحًا من الأفراد نحو تسجيل أوقاف داخل مناطق المملكة، ولكن البيانات والمعلومات تحتاج تحديثا باستمرار، وهذا يجعل تحديات الأوقاف المتعلقة بالأنظمة واللوائح والتعليمات الأكثر حضوراً في واقع التجربة السعودية، وضعف الرقابة النظامية على بعض الأوقاف، وجهل بعض النظار بأمور الوقف، وتغير البيئة المحيطة بالوقف، بالإضافة إلى تحديات تشغيلية وهي التحديات التي يؤدي عدم التصدي لها إلى ضياع فرص تطوير قدرات الوقف. ومن المتوقع أن يتطور قطاع الوقف بمهنية واحترافية أكثر مما مضى، لا سيما وأن مؤشرات الأداء إيجابية في ظل نمو أوقاف عامة وخاصة تعمل في أكبر الأسواق العربية حجمًا، بيد أننا نتابع مدى الإنجاز الذي تتحرك به الهيئة العامة للأوقاف في إنجاز تحديث التشريعات واللوائح التي تنمو بهذا القطاع، فضلًا عن أدوات الرقابة والحوكمة، والحراك الذي تشهده لجان الأوقاف والغرف التجارية، وجدوى الشراكات التي تعقدها الأوقاف مع المؤسسات المالية المؤثرة.