الجمهورية العربية السورية

أولًا) قراءة في التجربة

تاريخ وإدارة الوقف في سوريا[i]، يرجع إلى عصر الدولة الأموية، حيث شكلت دمشق عاصمة الخلافة الأموية، وتعززت فيها ثقافة الوقف حتى قال ابن بطوطة (779هـ/1377م) – بعد عدة قرون من رحيل الأمويين – عنها وخلال ترحاله وسيره في دمشق أن العشرات من المدارس ذات المستوى الابتدائي والجامعي كانت قائمة على أموال الوقف، وأن الأموال الموقوفة قد فاضت على الطلبة المنتسبين لها[ii].

وهذا يعطي مؤشرًا كبيرًا على الأوقاف الفائضة والمنتشرة في ربوع سوريا، وعزز هذا المشهد الحكم العثماني والذي استمر لعدة قرون، ولكن لما جاء المستعمر الفرنسي جعل الأوقاف في سوريا تحت المراقبة العامة، وألحقوها بالمفوض الفرنسي، وقد صدر تقرير في العام (1867م)من مكتب السفير الفرنسي في اسطنبول إلى وزارة الخارجية في باريس يتضمن ترجمة للقانون العثماني للوقف، والذي صدر بتاريخ (7 صفر 1248هــ/1832م)، وكان في ختام التقرير التأكيد على أن:” القانون كان خطوة مرغوبًا فيها، وخطوة حاسمة نحو اغتيال واختفاء الوقف، وبالتالي خدمة المصالح الفرنسية”[iii]. وخلال احتلال سوريا، تم إعادة تنظيم الوقف بصورة جزئية، وترتيبه من خلال قرارات المجلس الأعلى للأوقاف الإسلامية بالتصديق عليه برقم (752)، بتاريخ (2 مارس 1921م).

وفي عام (1930) تم نقل دائرة الأوقاف من المفوض الفرنسي إلى رئاسة الحكومة، وقد أشار الكثير من الاقتصاديين السوريين إلى أنه في عام 1934م تم رصد أكثر من أربعة آلاف وقف في سوريا مما كانت عقاراتها تمثل ثروة كبيرة تقارب 500 مليون فرنك، تخضع للإدارة الحكومية[iv]. أما القوانين والتشريعات بخصوص الوقف، فقد صدرت في صورة مبكرة منذ عام 1926م حتى عام 1949، ثم عام 1958، لكنها لم تؤد إلى تطور حقيقي على الأداء الوقفي[v]، ويمكن اعتبار قانون الأوقاف الصادر في 11 يونيو 1949 بمثابة “النكسة الوقفية الكبرى في سوريا”[vi]، في ظل حكومة حسني الزعيم، حيث نص القانون على قيام الحكومة بتوزيع ريع الوقف بناء على ما تراه الحكومة وليس بناء على شروط الواقفين أصحاب الوقف، ويكون هذا التشريع هو العامل الأول الذي زعزع نظام الوقف في سوريا منذ عصر الأمويين. وفي 1961، صدر مرسوم بتأسيس وزارة الأوقاف في الجمهورية العربية السورية، وأوكلت إليها إدارة شؤون الأوقاف، والإشراف عليها، وصيانتها، بالإضافة إلى الشؤون الإسلامية وإنشاء المساجد، وتخريج العلماء والوعاظ وإقامة المؤسسات الخيرية وبناء الجوامع والمساجد[vii]، ونص المرسوم في مادته الأولى:” الأوقاف الإسلامية في الجمهورية السورية هي ملك للمسلمين، وتتولى إدارة شؤونها والإشراف عليها وزارة الأوقاف”[viii].

ويظهر الواقع أن الأوقاف الخاصة والتي نظارتها للأهالي والمؤسسات تم القضاء عليها عندما تسلمت وزارة الأوقاف زمام الإشراف عليها، ففي دراسة على أوقاف مدينة دمشق للفترة ما بين (1160-1180هــ/1747-1766م)، كشفت عن (23) ألف حجة وقفية، تبين أن ما يزيد عن (80 %) من الحجج هي أوقاف ذرية، ولكنها للأسف تم القضاء عليها بسبب القوانين وتسلط الوزارة بالإشراف على كل ما هو وقف خيري أو أهلي[ix].

ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية

تعتبر التجربة السورية في إدارة الأوقاف خلال الفترة المرصودة [1996-2021] فقيرة جدًا لعدة أسباب موضوعية، أبرزها ضعف التشريعات الوقفية، وسيطرة الدولة على مقدرات الأوقاف، وغياب الحوكمة والشفافية عن واقع الإدارة الوقفية خلال العقود الماضية، فضلًا عن الأزمة الداخلية منذ عام (2011)م ما أثر سلبًا على واقع الأصول الوقفية بالمجمل، حيث أن الأوقاف الدينية كغيرها من مقدرات المجتمع المدني كانت مستهدفة في هذه الأزمة. ولا توجد إحصائية لعدد العقارات المملوكة من قبل وزارة الأوقاف حاليًا، بالتالي فإن المعلومات تقريبية، ولا تمثل الواقع الوقفي بدقة في سوريا، بسبب ضعف الإفصاح عن الأعداد الحقيقية للأصول الوقفية. وفي قراءة لبعض الدراسات التقريبية، فإن حجم الإيرادات الوقفية في سوريا يبلغ حاليًا، حوالي (8) مليون دولار أمريكي، في حين يبلغ عدد المساجد بسوريا (15000) مسجدًا، وأن حجم الأراضي الوقفية يصل إلى (170) ألف دونم، كما في الشكل التالي[x]:

ومن أكثر الصيغ الاستثمارية المعمول بها هي الحكر، وعقد الاحتكار يعد من عقود الإجارة الطويلة التي ترد على أراضي الوقف، وهو يعطي صاحبه المحتكر بمقتضاه حقًا عينيًا يخوله الانتفاع بالأرض الموقوفة، بإقامة مبان عليها أو لأي غرض آخر لا يضر بالعقار الوقفي نظير أجر محدود، وتنتشر في الأوقاف عقود الحكر كثيرًا، وهي تأجير العقارات الموقوفة لأشخاص بموجب عقود إيجار لمدة (99) عامًا، على أن يدفع المستأجر إيجارًا سنويًا محددًا لكل عقار يسمى هبة للأوقاف، بالإضافة إلى بدل استثمار سنوي يكون رمزيًا[xi]، ولا شك أن هذه الصيغة القديمة تشكل استثناء وليس أصلًا في التعاملات الاستثمارية لمؤسسات الوقف في العصر الحديث.

ومن النماذج الوقفية التي يمكن التنويه بها، صندوق العافية لتقديم المساعدات الطبية (1997م)، وبلغ عدد الذين استفادوا من خدماته قرابة أربعة آلاف مريض ومريضة، وقد بلغت نفقات وتكاليف العمليات ما يزيد عن 90 مليون ليرة سورية [حوالي 36 ألف دولار أمريكي]، وله صندوق مقارب في حلب[xii].

ثالثًا) استشراف التجربة

أما أبرز التحديات فهي التشريعات والقوانين المقيدة لتطور الأوقاف منذ تأسيس وزارة الأوقاف وعدم توفر القدرة القانونية والتشريعية لاستفادة المؤسسة من أصولها، بل بالعكس ساهمت – بلا شك في تآكلها – والسماح للآخرين في التعدي على هذه الأصول[xiii]. كما كان لسيطرة وزارة الأوقاف على الأوقاف الخيرية دور سلبي، إذ جعلت الإشراف ينحصر فيها، ما قلل من التفاعل الشعبي تجاه نظام الوقف[xiv]، كما لوحظ غياب الرقابة عن الأداء المؤسسي، – مع العلم بوجود إدارة كاملة في هيكيلية الوزارة تسمى [مديرية الرقابة الداخلية] [xv]، – بالإضافة إلى التعدي على أملاك الأوقاف، فضلًا عن ضياع الوثائق وإهمالها، كما أن ضعف الرقابة الإدارية والمحاسبية الصارمة على مسؤولي الأوقاف، أو ممن يستخدم العقارات الوقفية كان سببًا في ضعف فعالية مؤسسة الوقف. كما انتهجت وزارة الأوقاف سياسة التركيز على أوقاف المساجد على الأغلب، فصار من الصعب التفكير بمنطلق التنمية الحقيقي للأصول الوقفية واستثمارها بطريقة مثلى، وصارت الأوقاف هي الشؤون الإسلامية في وجهها الآخر، هذا الربط كان على حساب استثمار الأوقاف وتنميتها بصورة مطورة[xvi]، ثم زاد الطين بلة وقوع الأزمة السورية عام (2011) ما أثر بصورة شبه كاملة على القطاع الوقفي ومرافقه، وأحدث دمارًا واضحًا على بنية المؤسسة الوقفية في المجتمع السوري، لا سيما في قلة القيمة الشرائية وتصاعد التضخم في العملة، فصار ريع الوقف كعدمه، وقد يستمر ذلك لسنوات.