) الجمهورية التونسية

تعتبر التجربة الوقفية في تونس تجربة أصيلة عرفتها البلاد التونسية منذ فترات بعيدة[i]؛ حيث سار الوقف في البداية وفق ما ضبطه جمهور الفقهاء في باب الأحباس والأوقاف، لكن مع بداية منتصف القرن 19م بدأ تعيين بعض أفراد العسكر على الأحباس مما أدى إلى تغيير مصارف الوقف لتصبح مصدرا للرزق والكسب، وليس بابا من أبواب البر والخير[ii]، وقد مرت الأوقاف في تونس كباقي دول شمال أفريقيا بعدة مراحل، بيد أننا نسجل أن الأوقاف فيها قبل الاستعمار مرت بمرحلة إصلاحية تعززت فيها سيطرة الدولة عليها، من خلال جمعية الأوقاف، ففي عام 1874م قام الوزير خير الدين التونسي بتأسيس مؤسسة جميعة الأوقاف، وهذه المؤسسة كانت عبارة عن الإدارة الوقفية التي نظمت الأوقاف، حيث ” عمل على إصدار القوانين التي تضبط إدارة الأحباس التي كانت في وضع يرثى له، … وقد ارتفع مردود هذه الأملاك تحت الإدارة الجديدة ليبلغ ملايين القروش..” [iii].

أولًا) قراءة في التجربة

لقد مرت التجربة التونسية في إدارة الأوقاف بعدة مراحل؛ نفصلها على النحو الآتي[iv]:

المرحلة الأولى: من سنة 1858 إلى غاية 1861 تولى الإشراف على الأوقاف في تونس المجلس البلدي بالعاصمة، وتميزت هذه الفترة بفقدان العديد من الأوقاف وتحويل مصارفها عن وجهتها الحقيقية التي وضعت لها. حيث تشير الدراسات التاريخية إلى أن الجنرال حسين والذي كان يشغل منصب أول رئيس للمجلس البلدي للعاصمة قد قدّم استقالته من رئاسة هذا المجلس عندما عجز عن الوقوف في وجه من أرادوا المساس بأملاك الأوقاف، وصرفها في غير وجهها الشرعي الذي وضعت له.

المرحلة الثانية: خضعت الأملاك الوقفية في هذه الفترة إلى إشراف جمعية الأوقاف التي تمّ إنشاؤها سنة 1874، والتي أراد منها الوزير المصلح خير الدين التونسي الاعتناء بشؤون الأحباس العامة بالبلاد، والإشراف عليها وحفظها من التلاشي والضياع؛ وذلك من خلال تعيين نواب في المدن الكبرى السياسية، وكان لهؤلاء النواب نظار في الجهات يساعدهم وكلاء في القرى والمدن.

وأول عمل سارعت إليه الجمعية هو تحديد وحصر واسترجاع الأملاك الوقفية التي بدأت تخرج بطرق مختلفة نتيجة لضعف الوازع الديني للقائمين عليها، غير أنه بعد سقوط وزارة خير الدين بدأ الفساد يعود إلى مؤسسة الوقف تدريجيًا من خلال تعيين أشخاص لا ينتمون إلى المنطقة أو القرية الواقع بها الملك الوقفي، بالإضافة إلى افتقارهم إلى العلم الشرعي الذي يحكم الأوقاف.

المرحلة الثالثة: بعد انتصاب الحماية الفرنسية على تونس تعرضت مؤسسة الوقف إلى العديد من الانتهاكات والإجراءات المُضرة بها وبأملاكها؛ والتي نذكر منها: عندما وقعت تونس تحت الاحتلال الفرنسي عام 1881م، والذي أثر سلبًا على واقع الممتلكات الوقفية، وفي دراسة أخرى أنه عشية فرض الحماية عام 1881م كانت الأملاك الوقفية تبلغ ثلث الأراضي الزراعية المستغلة[v].

وفي سنة 1889م أصدرت سلطة الحماية قانون المعاوضة الذي يهدف إلى بيع عقار وقفي قديم أو ذي نفع محدود ويشتري بثمنه عقاراً آخر؛ غير أن هذه العملية مست أراضٍ وقفية شاسعة وذات مردود كبير من جهة، ومن جهة أخرى فإن عملية الشراء لم تتم نهائيا، حيث وُضِعتْ هذه الأموال بصندوق التعويض الذي يُسير من طرف سلطة الحماية، إلّا أن هذا الصندوق تمّ الاستيلاء عليه عن طريق الاقتراض منه دون إعادة ما تمّ اقتراضه. وفي السنة نفسها 1889م تمّ إصدار قانون آخر يقضي بانتزاع الأحباس التي كانت تسير من طرف جمعية الأوقاف التونسية والهيمنة عليها بطرق شتى. أما في سنة 1914م فقد تم إنهاء العمل بالأوقاف وبسط الاحتلال هيمنته على كامل عائدات الأوقاف وذلك عبر تطبيق قانون الإلزام[vi]. وفي دراسة تثبت أن نتائج الضبط تشير إلى أنه وخلال الحرب العالمية الأولى 1918م كانت الأملاك العقارية الوقفية في تونس كبيرة جدًا، إذ بلغت: 55.908.8931 هكتار – هو وحدة مساحة تساوي 10,000 متر مربع، – من الأراضي الزراعية، 909.819 شجرة زيتون، 600.637.94 فرنك فرنسي[vii].

المرحلة الرابعة[viii]: تواصل التضييق على جمعية الأوقاف مع دولة الاستقلال فبعد شهرين فقط من تاريخ الاستقلال أقرّ الحبيب بورقيبة عدة قرارات أدت إلى إلغاء الأحباس عمومًا، ففي 31 مارس 1956م تمّ إصدار قانون ينص على إلغاء الأوقاف وحلّ الجمعية العامة للأوقاف، وتحويل مكاسب الأحباس العامة لملكية الدولة، وفي 18 يوليو 1957 تم تصفيتها كلها؛ بحيث صارت الأوقاف العامة الخيرية إلى أملاك الدولة، وصارت الدولة مكلفة بالنفقة على المؤسسات الدينية التي تقدم الخدمات، وصار بالقانون أيضًا منع التحبيس[ix]. وبالرجوع إلى الأرشيف الوطني التونسي، وبالضبط إلى السلسلة c التي تحتوي على 1570 وثيقة، وهي وثائق الأحباس (القضايا العقارية، تصرف إدارة الأحباس وملفات أحباس الحرمين الشريفين: مكة والمدينة، وكذا المسائل العقارية، وممتلكات المؤسسات الدينية والتعاونية[x].

ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية

تشير الدراسات التاريخية إلى أنه خلال سنة 1883بلغت أراضي الوقف نصف مساحة الأراضي المزروعة في تونس، والتي تقدر بحوالي 570 ألف هكتار[xi]، إلّا أن القانون المؤرخ في 31 مارس 1956م، والأمر المؤرخ في 18 يوليو 1957م قد قضى على هذه الثروة الوقفية، وأعدم وجودها، ما يعني أن لا أرقام رسمية توثق أي أصول وقفية حاليًا في تونس. على الرغم من أن تونس كانت تعتبر من الدول التي كثر فيها الوقف وفاض، يكفي أن نبين أن من عجائب الأوقاف التي وصلت حد الحذاقة في تغطية الاحتياجات المجتمعية، قبل أن يتم إلغائها كليا في 18 يونيو 1957م، وجود أنواع من الأوقاف الغريبة، مثل وقف الخوص والريحان التي تصرف لشراء الخوص والريحان لتوضع على قبور الموتى، ووقف الحدأة الذي يصرف إيراده في تعويض ما تخطفه الحدأة من المأكولات المحمولة على رؤوس الناس في الطرق وخاصة الخدم والأطفال الذين يطالبون بما فقد منهم، ووقف الهرة الذي يصرف ريعه في شراء أغذية القطط من الكروش والأحشاء[xii].

ثالثًا) استشراف التجربة

تعتبر تونس هي الاستثناء الوحيد في العالم العربي الذي قام بإلغاء كامل الأصول الوقفية العامة والخاصة، وهذا الاسثتناء ما زال قائمًا بعد عقود متتالية من صدور القانون 1956م والأمر1957م.ولكن نجد الفصل 5 من القانون رقم 24 لسنة 2000م المؤرخ في 22 فبراير 2000م المتعلق بتنقيح وإتمام الأمر المؤرخ في 18 يوليو 1957م المتعلق بإلغاء نظام الأحباس الخاصة والمشتركة ينص على أنه: ” يجوز للمستحقين وبدون المساس بحقوق الغير من أصحاب الحقوق العينية أو بحقوق النزلاء إما: قسمة الموقوفات بالتراضي، وإما بيعها لأحدهم أو للغير…” [xiii].لكن بعد الثورة التي حدثت في عام 2011، وتغير نظام الحكم، وبداية حقبة جديدة، نجد من الصعوبة عدم قبول مشاريع القوانين الرامية إلى إعادة بعث سنة الوقف في تونس، والعمل على استرجاع الأملاك الوقفية المسلوبة والموزعة بموجب قانون 1956[xiv]، بسبب تَغَيُرْ الكيان المادي للكثير من الأوقاف مما يُصعب عملية استرجاعها. وتجدر الإشارة إلى وجود محاولات جادة من أجل إعادة بعث وإحياء سنة الوقف المعطلة في هذه البلاد، وذلك من خلال تقديم مشروع قانون الأوقاف سنة 2013م على المجلس الوطني التأسيسي