الجمهورية التركية

أولًا) قراءة في التجربة

يعد نظام الوقف جزءًا أصيلًا من خصوصية الشخصية التركية[i]، ولا يمكن أن تتصور حياة الأتراك بدون أن يكون لديهم أوقاف، فهي في حلهم وترحالهم، ثقافة توارثوها عن آبائهم وأجدادهم منذ دخولهم الإسلام، وعلى امتداد الدولة العثمانية التي استمرت أكثر من ستة قرون، [ 699-1342هـــ]، الموافق ميلاديًا [ 1299-1924م]، كما ساهم العثمانيون أيضًا في تعزيز ثقافة الوقف في المجتمعات المسلمة خلال فترة حكمهم[ii]، و كانت آنذاك ثلث أراضي تركيا موقوفة[iii]. ويعتبر “أورخان غازي” ثاني سلاطين الدولة العثمانية، وهو أول من أسس نظام الأوقاف التي نمت بشكل منسجم مع النمو الاقتصادي والسياسي للدولة، وعندما أمر أورخان غازي ببناء أول مدرسة عثمانية في “إزنيك”، وقف لها من الأموال غير المنقولة كالعقارات لتسد حاجاتها من المصاريف والنفقات، واقتدت بها أوقاف أخرى قامت لأغراض مختلفة، وصارت الثقافة في الدولة العثمانية أن المسجد الجامع في أي مدينة يجب أن يشمل على المدرسة، والسبيل، والمطبخ الخيري والمكتبة كملحقات وقفية للمسجد[iv]. وبعد قيام الدولة التركية الحديثة عام 1924م – على إثر سقوط الدولة العثمانية – وتأثر المجتمع المسلم فيها بالعديد من مظاهر العلمنة ومنع بعض مظاهر التدين والشعائر الدينية، إلا أن نظام الوقف بقي كما هو – ولو أنه تأثر سلبًا – بسبب التحول الذي حدث في الدولة[v].

وظهر هذا جليًا في الاهتمام بالأوقاف والقوانين المنظمة لشؤون الأوقاف، فضلًا عن الأرشيف العثماني الغني بالوثائق الكثيرة عن الأوقاف في أنحاء مترامية من الدولة العثمانية، ولا سيما أوقاف الحرمين الشريفين والقدس الشريف، سواء في الأناضول أو غيرها من أراضي الدولة العثمانية[vi]. ولم تقم تركيا بسن العديد من القوانين والتشريعات المقيدة للأوقاف كما فعلت باقي الدول، وذلك لكي لا تعيق الوقف عن أداء دوره التنموي، كما أنها قامت بإعفاءه من جميع الضرائب، ونتج عن هذا ظهور العديد من المؤسسات لخدمة القطاع الوقفي، والتي تستقطب قوة عاملة كبيرة.

وتعتبر المؤسسة الأولى في الأناضول هي مؤسسة الوقف، والتي تم تأسيسها في عام 1048هـ، وقد تم تفويض المديرية العامة للأوقاف المشهورة بــ VGM التابعة لرئاسة الوزراء سابقًا عام 1924م بالاهتمام بالأصول الوقفية، وربطها بالعمل المؤسسي، وصارت هذه المديرية من أكبر مالكي الأوقاف غير المنقولة بعد المديرية العامة للأملاك، إذ تملك 20.252 وقفًا مسجلًا، و41.720 وقفية صرفة متبقية من العهد الجمهوري يتم إدارتها من قبل المديرية للصرف على الاحتياجات الاجتماعية والعلمية في المجتمع التركي[vii]. وفي عام 2008، تم وضع قانون أوقاف يمنح الحقوق القانونية والشخصية للأوقاف، وتم استثناء ضريبة الدخل منها، ولكن تأخذ من الريع بنسبة 20%[viii]. ويتنوع استعمال الوقف في تركيا إلى أشكال مؤسسية متعددة، منها[ix]:

  • المؤسسات المضبوطة، [Mazbut Vakıflar]، والتي تم تأسيسها في العصرين السلجوقي والعثماني، وهي مؤسسات وقفية يتم إدارتها من قبل VGM، ويبلغ عددها أكثر من 59000 مؤسسة.
  • المؤسسات الملحقة، [Mülhak Vakıflar]، وأيضًا تم تأسيسها في العصرين السلجوقي والعثماني، ويديرها أحفاد مؤسسيها ويشرف عليها VGM، وعددها 256، وقد بلغ إجمالي الإيرادات في عام 2019 ما يصل إلى 17.5 مليون دولار أمريكي.
  • المؤسسات التي تخص المجتمع التركي، [Cemaat Vakıfları]، وهي عبارة عن منظمات خيرية أنشأتها أعراق متعددة كالبلغارية، والأرمنية، والجورجية، والكلدانية، والمارونية، واليهودية، واليونانية، والسريانية، وكانت تعيش في تركيا ما قبل تأسيس الجمهورية، وما زالت تدار من قبلهم، ويشرف عليها VGM، ويصل عددها 167، وبإجمالي الإيرادات لعام 2019 هو 68 مليون دولار أمريكي.
  • مؤسسات تم تأسيسها مع بداية الجمهورية [Yeni Vakıflar]، ولقد تم تأسيسها وفقًا للقانون المدني التركي، ويتم إدارتها من قبل مجلس الإدارة الخاص بهم، ويشرف عليهم VGM، وعددها [5352] وقفًا، وبلغ إجمالي الإيرادات في عام 2019 إلى 3.7 مليار دولار أمريكي.

وهناك مؤسسة أخرى في مدينة اسطنبول تسمى ب “وقف الديانة التركية”[x]، والتي فيها عدد كبير من الباحثين في قضايا الأوقاف، وقد قامت هذه المؤسسة بإصدار موسوعة إسلامية تجاوزت 40 مجلدا[xi].

ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية

تقدر المديرية العامة للأوقاف بتركيا أصولها لعام 2021 بحوالي 11 مليار دولار أمريكي، ويقدر أيضًا اجمالي ايراداتها لعام 2021 بمبلغ 152 مليون دولار أمريكي، وأغلب الاستثمارات الوقفية تتمحور في المجال العقاري والمصرفي وأعمال الشركات التجارية التابعة لها، فهي تملك ما يقارب 4.021 وحدة عقارية مستقلة كفلل وشقق ومحلات ومكاتب تجارية، ونظرًا للموراد المالية الكبيرة للمديرية، فقد تم استثمار أكثر من مليار دولار أمريكي بين عامي 2003 و 2020[xii]. ومن أقوى المؤسسات المصرفية التي تتبع للمديرية، مؤسسة [Vakif Katilim] والتي تأسست عام 2015 برأسمال 300 مليون دولار أمريكي، ويوجد لها [104] فرعًا في عموم محافظات تركيا[xiii]، وأيضًا هي شريك رئيسي في مؤسسة بيت التمويل الكويتي [KuveytTürk’ün] المصرفية التي لا تتعامل بالربا، وتملك منها المديرية 18.7٪ من أصولها، أي ما يعادل 200 مليون دولار أمريكي تقريبًا[xiv]. كما تساهم المديرية في الاستثمار الزراعي من خلال أصولها الزراعية، فقد أسست إدارة عمليات الزيتون في ايفاليك فاكيف عام 1940، وفي كل عام يتم إنتاج 200 طن زيت زيتون و100 طن زيتون، فضلًا عن المنتوجات الزراعية الأخرى، ولها في عموم تركيا 11 متجرًا متخصصًا في المنتوجات الزراعية[xv].

وتملك المديرية العامة للأوقاف حاليًا ما يقارب (65) ألف عقار وقفي في جميع أنحاء البلاد، منها حوالي 9 آلاف أوقاف ثقافية، وفي السنوات الـ 18 الماضية، استعادت المديرية العامة أكثر من 5000 أصل ثقافي يتبع لها[xvi]، وتحوز المديرية على سجلات للمتاحف والأصول الثقافية المنقولة تقدر بــ 176.691، ويوجد ما يقارب 34.396 مخطوطة ومصنفات نادرة مطبوعة في مكتبات المديرية، كما أنها تملك بالكامل جامعة الفاتح سلطان محمد Fatih Sultan Mehmet Vakıf Üniversitesi وجامعة Bezmialem Vakıf في مجال العلوم الصحية. ولا يمكن قياس حجم الأصول الوقفية، بسبب أن هناك أوقافًا دخلت التراث العالمي كمسجد السلطان أحمد ومسجد آية صوفيا.

هذه الميزانية الكبيرة في الاستثمارات الوقفية للمديرية العامة جعلها قادرة على أن تساهم في التنمية المجتمعية، لا سيما التعليمية، فهي تصرف راتب شهري قدره [10] دولار أمريكي لـ 15000 طالب في المدارس الابتدائية والثانوية، وراتب شهري قدره 42 دولار أمريكي لـ 5،400 طالب جامعي، وراتب شهري قدره 85 دولار أمريكي لـ 600 طالب أجنبي، وراتب شهري قدره 148 دولار أمريكي لـ 4400 شخص محتاج[xvii].

ثالثًا) استشراف التجربة

تعتبر التجربة التركية من التجارب الوقفية الرائدة في العالم الإسلامي، فهي قديمة وعريقة بصورة انعكست كليًا على واقع تركيا والدول المجاورة لها، لا سيما في ظل العهد العثماني الذي حكم فترة قرون. وشكلت المديرية العامة للأوقاف دورًا رئيسيًا في الحفاظ على هذه الأصول والموارد، خصوصًا في مجال استعادة الأصول الوقفية التي تمت مصادرتها، أو تلك الأصول التي خضعت للحكر وتم تطويرها واستغلالها بعيدًا عن سلطة المديرية العامة، أو تلك الأوقاف المعطلة، فيتم تطويرها من خلال المستثمرين، وقد طورت المديرية منذ عام 2003م ما يقارب 208 أصلًا وقفيًا[xviii]. وبفضل التطور المستمر للقوانين المتعلقة بمؤسسة الوقف منذ عام 2008، حدث ارتفاع في عدد الأوقاف الجديدة من 4.443 في عام 2008 إلى 4.867 في عام 2014، بمعدل ​​70 وقفًا جديدًا في السنة، على الرغم من أنها ليست زيادة كبيرة[xix]. وعززت هذا التوجه في عدة مجالات، منها المجال التعليمي، فالجامعات الأهلية – المؤسسات الخيرية التابعة للأوقاف- يتم تمويلها من وقفيات وأموال المؤسسات الخيرية وتبرعات الأفراد، فضلًا عن رسوم الطلبة والدعم الحكومي المشروط بنسب الإنجاز.

ومن المجالات الإيجابية التي ساهم فيها الوقف التعليمي الجامعي، أن بلغ عدد الجامعات الوقفية في تركيا عام 2012م ما يقارب 62 جامعة وقفية[xx]، وإذا أردنا أن نضرب مثالًا لبعضها، فجامعة بيلكنت، بلغت إيراداتها في سنة 2007 حوالي 202 مليون دولار أميركي، 47 % منها أتت من رسوم الطلاب، و18% من البحوث والمساعدات الحكومية، و4.5 %من تأجير سكن الطلاب ومن تبرعات وهبات صغيرة، و30 %من أموال وقف الجامعة. أما من جهة الإنفاق فالجامعة أنفقت 2.5 %من مجموع مصاريفها على المنح الدراسية في العام 2007 حيث استفاد 3.000 طالب من هذه المنح – أي ربع الطلبة – البالغ عددهم 12.000[xxi].

ومع هذه الإنجازات الكثيرة على نطاق الجمهورية التركية، ومع التحسن والإقبال المستمر من المسلمين على الوقف والتحبيس، وضمن القوانين التي تيسر عليهم الوقف لأي غرض كان، إلا أن التجربة التركية قد أخذت خصوصيتها لا سيما أنها تأثرت جزئيًا وسلبيًا في موضوع العلمنة، فوضع أموال الوقف بدايةً في بنك ربوي VakıfBank على مدار عدة سنوات، يعتبر مخالفة شرعية – لطبيعة الوقف الذي هو قربة شرعية – والذي يعتبر البنك الخامس في الجمهورية[xxii]. وسرعان ما تم تعديل ذلك من خلال إنشاء بنك إسلامي (Vakif Katilim) استوعب موراد الوقف الكبيرة، ثم أن خضوع الأصول الوقفية التنموية في المجتمع التركي للضرائب قد قلل من فعاليتها الاستثمارية، فتعتبر الضرائب عبئًا وحملا يؤثر سلبًا على الأوقاف.

والذي يظهر لنا أن التجربة التركية مميزة وقد أخذ الوقف فيها دورًا حقيقيًا في مجال التنمية المجتمعية والاقتصادية، ولعل تجربة الجامعات الوقفية، وإيجابية التشريعات الداعمة للوقف، والتطور الاستثماري المستمر لأعيان الوقف، فضلًا على التركيز على التعليم في الصرف، والعمل المؤسسي الكبير في إدارة الأوقاف، وأخيرًا دخول البنوك الإسلامية في تركيا ساعد في زيادة التمويل والتطوير للممتلكات الوقفية