الجمهورية اليمنية

أولًا) قراءة في التجربة

تعتبر اليمن من الدول التي انتشر فيها الوقف انتشارًا واسعا في جميع مناحيه وأطرافه، لدخوله في الإسلام منذ عهد النبوة، ما كان له الأثر الواضح على تطور التنمية فيه على مر التاريخ الإسلامي، لا سيما أثره في زيادة الحركة العلمية[i]، وكانت من الثقافة القائمة في المجتمع اليمني أن الوقف يجب أن يُصاحب أي مسجد يُقام، ” حتى إنه كان عندما يقوم شخص ببناء مسجد ولم يوقف له، كان يسمى ديوان، لأنه كان يعتبر من الواجب على الباني للمسجد أن يوقف عليه ما يفي بإقامته”[ii]. فمؤسسة الوقف تعتبر من المؤسسات التاريخية القائمة وتستند إلى النص الدستوري الذي يعطى الخصوصية والحرمة له ما يسهل من تحسين الأداء وتطوير موارده، وتشرف على الوقف وزارة الأوقاف والإرشاد ولها الولاية العامة بتنظيم وإدارة شؤون الأوقاف العامة وحمايتها والمحافظة عليها، وحسب القرار الجمهوري رقم (99) لسنة (1996)، تختص وزارة الأوقاف في استصلاح واستثمار الأوقاف، وتنمية الفائض من غلاته، وتنفيذ الخطط الاستثمارية في المجالات الزراعية والصناعية والتجارية والمنشآت الصحية غيرها، وصدر قرار جمهوري رقم (63) لعام 1977 بتحديد اختصاصات الوزارة، وتخصيص مكاتب للوزارة في جميع المحافظات، وأن الوزارة لها شخصية اعتبارية [iii].

ثانيًا) إدارة الأصول الوقفية

تشير الإحصائيات في الفترة (1991-2002) أن إيرادات الوقف الإجمالية اتسمت بالتدني، حيث نمت بمعدل (25.5 %) في المتوسط، أما في سنة (1995-1999) فارتفع معدل النمو بحوالي (43.9 %)، وبصورة إجمالية فإن إيرادات الأوقاف قد زادت على أساس فعلي (80.5) مليون ريال يمني [حوالي 322 ألف دولار أمريكي] لعام (1991) إلى (209) مليون ريال يمني [حوالي 835 ألف دولار أمريكي] سنة (1999) أي بزيادة قدرها (528,5) مليون ريال [حوالي 2 مليون دولار أمريكي] من (1991-1999)[iv]، كما أن إجمالي ايرادات الوقف التراكمي للفترة (1991-1999) قد بلغ 2,782 مليار ريال [حوالي 11 مليون دولار أمريكي]؛ حيث بلغ متوسط هذه الإيرادات خلال نفس الفترة (1991 – 1999) حوالي 309 مليون ريال [حوالي 1,235 مليون دولار أمريكي] في المتوسط، رغم النمو السنوي للإيرادات إلا أنها يقيت منخفضة، وهذا المستوى لا يتناسب مع حجم ومستوى الأوقاف في اليمن[v]. وتعد الأراضي الزراعية والمباني من أهم الأصول الوقفية في اليمن؛ ففي إحصائية أن الوزارة تملك من الأراضي الزراعية المستغلة وغير المستغلة ما بين [400 ألف إلى 1 مليون متر مربع] [vi]، والتي تؤثر بدورها على الايرادات الوقفية، والأمر نفسه يُقاس على مساحة أنواع الوقف التي شملها الحصر إلى غاية (2002)، وتكشف حجم الأوقاف[vii]:

إضافة إلى ذلك، فإن ضعف أو غياب حصر كامل لممتلكات الأوقاف وتوثيقها، قد عرضها للنهب والتحايل[viii]، وضعف كفاءة التحصيل والتعدي على ممتلكات الأوقاف وضعف حمايتها والتلاعب في تقويم الأصول الوقفية؛ على الرغم من محاولة حصر هذه الأصول خاصة الأراضي الوقفية الموزعة على كافة التراب اليمني، وهو ما يوضحه الشكل التالي[ix]:

ثالثًا) استشراف التجربة

تأثر قطاع الوقف في اليمن بالظروف السياسية والعسكرية التي أثرت سلبًا على المجتمع اليمني ككل، بدءًا من الحرب الأهلية عام (1994)، ولاحقًا سقوط الحكومة اليمنية والسيطرة على العاصمة اليمنية عام 2014، وهذا السبب زاد من التحديات والعوائق في تنمية الأصول الوقفية في اليمن، فضلًا عن الصعوبات الذاتية المتعلقة في بنية مؤسسة الوقف، والتي من أبرزها[x]:

التعدي على حق الأوقاف بصورة واضحة وجلية، فقد تعرضت عقارات الأوقاف في أغلب المحافظات إلى تعديات وسرقات وتغيير في الملكيات بسبب ظروف الحرب والاقتتال، منها على سبيل المثال بيع مساحات كبيرة من الأراضي الموقوفة لصالح الجامع الكبير بصنعاء، والتي تصل إلى عشرات الآلاف من أراضي وأملاك الأوقاف. ومن أشكال التعدي انتهاء العقود، والعمل بعقود منتهية منذ عشرين إلى أربعين سنة، ما أدى إلى خسارة مؤسسة الوقف الكثير من الريع، والتي تقدَّر بآلاف العقود، فهناك (17) ألف عقد يختص بالممتلكات الوقفية غير مجدَّد [xi]، والتي أدت أن تقوم كل مديرية أوقاف بتشكيل لجنة هندسية وقانونية، وأنتج ذلك زيادة إيرادات الأوقاف في الثلث الأخير من العام (2019م)، فهناك عقود وقفية تؤجَّر بالباطن لشخص آخر بأسعار كبيرة، وهذا ما يجعل الوقف يخسر الكثير. وهذا يستدعي من القائمين على مؤسسة الوقف العمل على التوعية المجتمعية في أهمية الحفاظ على الأصول الوقفية، وحصر الوثائق إلكترونيا، بعدما يتم حصر وجرد كافة الممتلكات الوقفية في كافة المحافظات. وهذا يجعلنا نلاحظ أنه يجب أن يكون هناك التزام قوي من مؤسسة الوقف بالحوكمة والشفافية ومن كل أصحاب المصالح الوقفية، وأولها الدولة، في المساعدة على الكشف عن هذه الأصول، لأن واقع الوقف قد تأثر حقيقة بظروف الحرب، فضلًا عن غياب الثقافة المجتمعية تجاه الوقف، على الرغم من أن النصوص الدستورية والتشريعية تعطي الحصانة للوقف. ولكن على أرض الواقع، ليس هناك شفافية ولا تقارير يمكن الاعتماد عليها في ضبط الأصول والريع، بالإضافة إلى هذا كله تدني قيمة الريع الوقفي، فقد أصاب الريال اليمني تدن واضح في القيمة الشرائية، فصار الريال اليمني يساوي [0.004] من قيمة الدولار الأمريكي الواحد، ما زاد من تدني فعالية ريع الأوقاف عمومًا. ونرى أنه في ظل الأوضاع الحالية في اليمن واستمرار ظروف عدم الاستقرار السياسي في الدولة أن لا تتحسن ظروف الأوقاف هناك لسنوات قادمة، لأن عامل عدم الاستقرار السياسي يؤثر بالضرورة على الاستقرار الاقتصادي، وكذلك على تحسن عامل الحوكمة الذي له الدور الأكبر على تنظيم الأوقاف والنهوض بها من جديد.

استشراف واقع التجربة الوقفية في شبه الجزيرة العربية

يعتبر إقليم شبه الجزيرة العربية من أكثر الأقاليم في العالم الإسلامي حراكًا ونشاطًا في قطاع الوقف، والأسباب في هذا متعددة، ولكن أبرزها أنه الأقرب إلى مهبط الوحي، مكة المكرمة والمدينة المنورة، واللتين شكلتا مصدر إشعاع للعالم الإسلامي، ومعقلًا للمسلمين، حيث الزيارات الدورية لعموم المسلمين في مواسم الحج والعمرة، ثم ظهور حقبة النفط وما أسهم في تطوير الحياة الاقتصادية في دولها، وتعزيز الحركة المصرفية الإسلامية في آواخر السبيعينات إلى الآن، وتعامل الحكومات في هذه المنطقة بإيجابية واضحة مع قطاع الوقف، ثم توجه معظم الدول في هذه المنطقة نحو استقلالية مؤسسة الوقف عن الإدارة الحكومية له، وإن كان هذا الاستقلال لا يعد كاملًا لكنه يتعزز من خلال النتائج المؤسسية والمالية التي انعكست إيجابًا على لغة الأرقام. وما زاد من نجاح ملف الوقف في هذه المنطقة خضوع العديد من هذه المؤسسات إلى مبادئ الحوكمة والشفافية وأدوات الرقابة.

لقد تبين لنا أن هناك دولًا استطاعت تنمية قطاعها الوقفي بصورة واضحة خلال الفترة (1996-2021)، ويمكن اعتبار السعودية والكويت وقطر والامارات من أكثر الدول التي عززت هذا التوجه، لا سيما الكويت التي كانت سباقة في تنظيم إطارها الوقفي الرسمي بتأسيس الأمانة العامة للأوقاف عام (1993م)، ثم تمكنت من تسلم ملف تنسيق الأوقاف في العالم الإسلامي ما عزز من حضورها ودورها في هذه المنطقة، بل على الكثير من الدول الإسلامية. في حين تشكل تجربة المملكة العربية السعودية ريادة في الأوقاف الخاصة، ليس فقط في هذه المنطقة، بل في العالم الإسلامي، وتؤكد المؤشرات أن التطوير الذي حصل مؤخرا في هيكل إدارة الأوقاف في المملكة سيسهم في ريادتها في هذا القطاع على المستويين العام والخاص،

ولعل الأسباب كانت واضحة عند كلامنا على تجربتها. في حين تمثل التجربة القطرية والإماراتية، – خصوصًا تجربة إمارة دبي – تطورًا من خلال الاستفادة من الطفرة العقارية والدعم الحكومي وتطور قطاع الرقابة والتقنيات في زيادة أصولهما. ثم البحرينية والعُمانية تمثل تجارب يمكن أن نقول إنها في حالة نهوض وتطور، وتحاول أن تستفيدا قدر الإمكان من التشريعات والقوانين والبيئة الاستثمارية كي تطورا أصولهما وريعهما، لكن حركتهما مقيدة بالإجراءات الحكومية، وتحتاج إلى مزيد من العمل والتأطير لتشكل إطارًا فعالًا للعمل الوقفي. أما اليمن، فعلى الرغم من حجم الأصول الوقفية الكبيرة فيه منذ فجر الإسلام، فقد أثر الوضع السياسي والعسكري، – لا سيما الاضطرابات الداخلية في الفترة المرصودة (1996-2021) على الموجودات الوقفية بصورة سلبية وحادة، بل وأسهمت في القضاء على بعض هذه الأصول وسرقتها والاعتداء عليها بالتدرج، وفرض الوصاية عليها، فضلًا عن حالات الفساد المستشرية في أروقة بعض مؤسساتها ما جعل مورد الوقف ضعيفًا اقتصاديًا واجتماعيًا. واستشرافنا لواقع التجربة في هذا الإقليم، – والذي يعد من الأقاليم الريادية في العالم الإسلامي – ما عدا تجربة اليمن – يمكن أن يستمر رائدًا في تطوير قطاعات الأوقاف فيه، إذا استطاع القيام بتشريعات وقوانين تسهل عمل مؤسساته، لا سيما مؤسسات الأوقاف الخاصة، وأن تعزز من الشراكات والتحالفات مع أصحاب المصالح الوقفية في المجتمع، والذين يشكلون قوى مؤثرة سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص. ونأمل أن يتوسع قطاع تمويل الأوقاف فيها من خلال زيادة النظر في التقنيات الحديثة، وأن تركز على الأدوات والصيغ الاستثمارية الحديثة، لا سيما وأن الفرص العقارية والصناعية يمكن أن تحدث نقلة حقيقية في أصول الوقف وقدرته على التنمية المجتمعية

[ix] خالد البركاني، التجربة الوقفية في اليمن، مرجع سابق.

 [x]  محمد الأفندي، الأوقاف في اليمن، مراجعة لدورها الاقتصادي والاجتماعي، ص9.

 [xi]  محمد الأفندي، الأوقاف في اليمن، مراجعة لدورها الاقتصادي والاجتماعي، ص10-13.