أوقاف المسجد الأقصى 

كما تحدثنا عن واقع أوقاف الحرمين الشريفين من داخل وخارج مدينتي مكة والمدينة، فإننا أيضًا نلحظ أن الأوقاف التي اختصت بالمسجد الأقصى، كان جزءٌ منها واقعًا داخل مدينة القدس، والجزء الآخر يقع خارجها، وقد رصدنا هذا من خلال الآتي:

أولًا) الأوقاف الإسلامية داخل مدينة القدس الشريف

تعتبر البلدة القديمة في مدينة القدس من “أغنى مدن العالم بالآثار القائمة التي تزيد اليوم عن (200) أثر تنتمي للحضارة الإسلامية، منها (46) مدرسة تاريخية، و(39) زاوية وضريحا وتربة، و(25) مسجدا، و(22) سبيلا وحماما، و(35) قبة ومحرابا وبابا، و(18) طريقا مقدسة عند النصارى، و(8) أبواب، وعدد كبير من القباب والتكايا والأروقة والمقابر”، وتعززت مواقع هذه البلدة بعد تحرير صلاح الدين الأيوبي لها عام (583هـ/1187م)، إذ “زادت مكتباتها الوقفية عن مائة وسبعين مكتبة ملحقة بالمساجد والزوايا والمدارس والكتاتيب خلال فترة الدراسة”.

وأكد سجل المحكمة الشرعية بالقدس – وهو الأقدم في العالم العربي، والذي يحتوي على أكثر من (100) ألف صفحة في (820) سجلًا، من تاريخ القدس [936-1336هـ/1530-1917م]، – على حجم الأوقاف في مساحة البلدة القديمة التي لا تتجاوز (900) دونم -الدونم ألف متر-، أي ما نسبته (0.71%) من المساحة الكلية لمدينة القدس الحالية.

وقد تشكلت الأوقاف في المسجد الأقصى قديمًا من قبل المسلمين الزائرين أو ممن سكن القدس ونواحيها، وصار هنالك ما يمكن أن يُسمى بـــ “وقف الحارات”، وهي أحياء للمسلمين القادمين من خارج القدس وسكنوا جوار المسجد الأقصى، مثل حارة المغاربة الواقعة بجانب حائط البراق، وفيه جامعة المغاربة، وهي حارة وقفية مخصصة لأهل المغرب والأندلس، أو وقف تكية خاصكي سلطان، وهو وقف زوجة السلطان سليمان القانوني عام (959هـ /1551م)، وبلغ عدد القرى والمزارع الموقوفة على التكية، (34) قرية ومزرعة، وأيضًا حارة الغورية، للمسلمين من أفغانستان، وحارة أو زواية الهنود، جنوب باب الأسباط شرق المدينة، ومساحتها تقدر 1.5 دونمًا، ويقال أيضًا عن حارة المشارقة أو مسلمي بخارى أو بلاد فارس، وهي قريبة من مسجد المئذنة الحمراء، ومنها وقف حارة الأكراد أو حارة الشرف، وتم تحبيس قريتي طور زيتا وأبو ديس على أبي العباس الهكاري وأبي الحسن الهكاري وذريتهما من الأكراد الذين حاربوا مع صلاح الدين.

هذه الأوقاف لهؤلاء المسلمين الذين سكنوا في رحاب المسجد الأقصى كانت جزءًا من أوقاف أخرى، تم تقديرها ما بين (67%) إلى (80%) من البلدة القديمة من مدينة القدس.

 هذه الأوقاف المزدحمة حول القدس ومدائنها شكلت تاريخًا جعل الوقف جزءًا من ثقافة المجتمع المقدسي، على الرغم من حجم الاعتداءات التي تعرضت له المدينة من الغزو الصليبي لمدة 88 عامًا، وبالتحديد من عام (492هـ/ 1099م) حتى عام (583هـ/ 1187م) وهو العام الذي جرت فيه معركة حطين، ثم بظروف غير مستقرة لعدة عقود إلى أن انتهينا بالانتداب البريطاني (1917-1948م)، ثم مباشرة بالاحتلال الصهيوني الذي ما زال قائمًا ومحتلًا للمسجد الأقصى.

وتقع مسؤولية أوقاف مدينة القدس منذ عام (1967م) وحتى الآن تحت ولاية سلطة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية، وفيها دائرة الأوقاف الإسلامية، وتتبع لقوانين ولوائح الوزارة، وتنقسم العقارات الوقفية في القدس الآن إلى:

  • عقارات وقفية صحيحة موقوفة على المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، أو مدارس ومكتبات ودور القرآن، وتديرها دائرة الأوقاف مباشرة.
  • عقارات وقفية صحيحة موقوفة على المسجد الأقصى، ولكن تديرها لجنة الزكاة أو جمعيات ومؤسسات خيرية مقدسية، ويعود لخزينة الدائرة جزء من أجرتها مثل مدارس الإيمان، ومدرسة أبوبكر الصديق، وجمعية سلوان، وجميعة صور باهر النسائية وغيرها.
  • عقارات وقفية صحيحة موقوفة على مساجد الأحياء المقدسية، وتديرها أيضًا لجان تتبع مؤسسات خاصة كلجان الزكاة، أو الإمام في المسجد، أو جمعيات أو أطباء، ويعود لصندوق الأوقاف منها نسبة متفق عليها ما بين الدائرة واللجنة، وتعتبر هذه العقارات من أفضل العقارات في مدخلاتها.
  • أوقاف ذرية -تحت تولية الأوقاف- ويستفيد الورثة من الأجرة، وتأخذ دائرة الأوقاف نسبة مئوية من الأجرة مقابل خدمة التولية على العقار، وتحصيل الأجرة من المستفيدين.
  • الحكر، وهو العقار المحْبوس لجهة معيَّنة تستفيد منه، وهو عقد الإجارة الطويلة، وقد تصل المدة إلى (99) سنة كما في بعض الدول الإسلامية، وهناك أوقاف كثيرة محكرة، وللأسف ضاعت بسبب ظروف الاحتلال وعدم المتابعة الإدارية، ففي داخل البلدة القديمة في القدس حوالي (575) عقارًا محكرًا، كما أن هناك أحكارًا وقفية في الأحياء المحيطة بالبلدة القديمة بلغت حوالي (230) عقارًا محكرًا، أما الأحكار الوقفية في أحياء المدينة والتي احتلت عام (1948م) تبلغ (80) عقارًا محكرًا.

أما حجم الأصول الوقفية في القدس والتي تشرف عليها دائرة الأوقاف لعام (2020م)، فتقدر بملياري دولار أمريكي، ويصل ريعها إلى (1.438.000) مليون دولار أمريكي، والريع المتحصل من الأوقاف الذرية يصل إلى (132.000) ألف دولار أمريكي. ومن النماذج الوقفية في القدس، عيادة المسجد الأقصى، ومستشفى المقاصد، وجامعة القدس، والكليات والمدارس الوقفية.

وكما هو واضح، فإن مقدار الريع المتحصل لا يتناسب مع حجم هذه الأصول الوقفية، ولكن السبب في هذا يعود لوجود الاحتلال والإجراءات التعسفية التي يفرضها بقوة على حركة استثمار هذه الأصول، وقد أدى هذا أيضًا إلى اندثار ما يقارب (9%) من أصول هذه الأوقاف، حيث أن ما يقارب (7%) تم مصادرته من قبل الاحتلال، و (2%) تم الاعتداء عليه من قبل آخرين، وهذا يعني أن دائرة الأوقاف تشرف فقط على (82%) من حجم الأصول الوقفية في شطر مدينة القدس عام (1967م).

ونظرًا لظرف الاحتلال، فإن المشاريع الوقفية داخل القدس قد تفتقد للنماذج الوقفية المطورة، ولكن المؤمل من جهود دائرة الأوقاف الحفاظ على أصولها وتطويرها على الرغم من تحديات الاحتلال، وهنا نجد أن دائرة الأوقاف عليها مسؤوليات عديدة، منها تطوير أوقافها الاستثمارية كالمستشفيات والمدارس والفنادق، وتأهيل كادرها الوظيفي وتدريبه، والمراقبة والمحاسبة على متولي الأوقاف الخاصة، وفوق كل هذا الحفاظ على أصولها الوقفية المعرضة للمصادرة بسبب قوانين الاحتلال التي صادر العديد من أوقاف القدس منذ الاحتلال الأول عام (1948م)، ثم الاحتلال الثاني عام (1967م)، كقانون أملاك الغائبين، فقامت الدائرة بتسجيل أوقافها في المحكمة الشرعية بالقدس التابعة لسلطة الاحتلال الصهيوني خوفًا من ضياع الوقف.

كما أن عدم وجود ميزانيات ومخصصات كافية لتعمير وإنشاء أوقاف جديدة يعتبر مؤشرًا على ضعف تطوير قطاع الوقف في المدينة، بالإضافة إلى عدم وجود كفاءات إدارية واختصاصية في إدارة الأوقاف، والروتين الحكومي الذي يعطل الأداء الوقفي في بعض الأحيان، على الرغم من وجود مشاركة من المتطوعين في أرشفة وخدمة الأوقاف، وبعض المبادرات الشعبية المقدسية في إنشاء أوقاف جديدة. 

ثانيًا) الأوقاف الإسلامية خارج مدينة القدس الشريف 

واقع الأوقاف الإسلامية التي تختص بالمسجد الأقصى أو مدينة القدس كان حالها مثل حال أوقاف الحرمين الشريفين في بلاد المسلمين، فتاريخيًا تم إثبات موضوع الصرة – أو “الصرتين الرومية والمصرية”– مخصصة للمسجد الأقصى، وهي أموال خصصها العثمانيون في آسيا الصغرى أو في مصر لأهل القدس، حيث تُرسل سنويًا، فقد ثبت في سنة (1145هـــ/1722م) – على سبيل المثال لا الحصر- أن الصرة الرومية أرسلت من الدولة العثمانية قدرها (5580) قرشًا، والصرة المصرية بقيمة (883) سلطانيًا كما ثبت في حجية وقفية، لتغطي مصاريف الأئمة والخطباء والمؤذنين وغيرهم.

والأوقاف المقدسية كما تم تعريفها ” جميع الأحباس الموقوفة على المسجد الأقصى المبارك أو مدينة القدس الشريف، من أوقاف عقارية أو منقولة أو نقدية – داخل المدينة أو خارجها – تكون مخصصة للصرف على المسجد أو المدينة”.

وتقديراتنا أنه ليس هناك إحصائية دقيقة لحجم الأوقاف المقدسية في العالم، لأسباب عديدة، من أبرزها أن الأوقاف المقدسية قديمة، وبعضها مُسجل، والبعض الآخر غير مسجل، فضلًا عن غياب معلومات حقيقية عن بعضها، وبعضها وقف عقاري والآخر نقدي، وغيرها من الأسباب، التي تجعل من الصعوبة الكشف عن الرقم الحقيقي لتقدير هذه الأصول.

ولكن قراءتنا من خلال الجدول الآتي تشير إلى تقدير أولي لحجم أبرز الأوقاف المقدسية في العالم:

كما أننا نلحظ أن حجم الأوقاف المقدسية يتزايد، خصوصًا بعد الاحتلال الصهيوني، وتعرض المدينة بشكل دوري لعدة اعتداءات في ظل احتياجات حقيقية لسكانها، ولعل بداية إحياء هذه الظاهرة جاء بعد إحراق المسجد الأقصى بتاريخ (21 أغسطس 1969م) على يد الأسترالي دينس مايكل، وعلى إثر ذلك اجتمعت ثلاثون دولة إسلامية في الرباط بتاريخ (25 سبتمبر 1969م)، وقرروا لاحقًا إنشاء صندوق القدس عام (1976م)، ولكن بداية التفاعل الشعبي الحقيقي كانت في (28 سبتمبر 2000م) مع انتفاضة المسجد الأقصى، إذ كانت تقدر الأصول الوقفية للقدس آنذاك بـ (20) مليون دولار أمريكي، ولكن تصاعدت في السنوات الماضية، فقد وصلت عام (2020م) إلى (184) مليون دولار من خلال زياراتنا الميدانية لهذه المواقع، كما في الشكل التالي:

وتأثرت فعليًا حركة صعود هذه الأصول بسبب أزمة كورنا، والتداعيات المالية التي أصابت جميع دول العالم. 

وعلى الرغم من ظهور الأوقاف المقدسية في العالم الإسلامي، إلا أن هناك معوقات حقيقية من أبرزها الصعوبات القانونية كما في وقف القدس في قطر، أو مشاكل في تسجيل الأوقاف المقدسية كما في وقف القدس في اليمن، أو الإجراءات المعقدة في مجال التنمية والاستثمار والتمويل كما في وقف القدس الخيري في السودان والجزائر والبحرين وماليزيا ولبنان. كما يجدر الانتباه إلى أن هناك إرصادًا يتم تخصيصه من بعض الحكومات الإسلامية تجاه مدينة القدس أيضًا، والذي يدرج ضمن ميزانيات دائرة الأوقاف، ويمكن إجمال بعض هذه المخصصات الوقفية لصالح المسجد الأقصى ومدينة القدس كما في الجدول التالي: