أوقاف المسجد النبوي

تشكل المدينة المنورة منبع صدور الوقف للعالمين، فقد تم تشريع الوقف من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ ورد في باب الشُّرُوط في الوقف كما أثبته البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما ” أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ، قَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ، قَال: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِين، فَقَال: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالً”.

ومنذ عصر التشريع، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحبسون ويوقفون أموالهم في سبيل الخيرات، ومنها الأوقاف الدينية، ولعل أبرز هذه الأوقاف الدينية في المدينة هو المسجد النبوي. 

وكان هناك اهتمام واضح في احتياجات المسجد النبوي، من ذلك اهتمام الخلفاء والسلاطين والأمراء بتقديم كل ما يلزم من العناية بهذا المسجد، ففي العصر المملوكي أرسل الظاهر بيبرس منبرًا للمسجد عام (797هــ/1394م)، ثم تم استبداله بمنبر آخر من السلطان المؤيد (820هــ/1417م)، ثم أرسل السلطان الأشرف قايتباي منبرًا من الرخام للمسجد، ثم في عام (998هـ/1589م) أرسل السلطان مراد منبرًا لا يوجد له مثيل آنذاك.

ولم تتوقف أوقاف المسلمين على المسجد النبوي، بل شملت أيضًا بعض المساجد مثل مسجد القبلتين وغيره، وكانت تُخصص أوقاف للصرف على العلماء في المسجد النبوي.

بل من فرط حب المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم، أنهم قاموا بتأسيس أوقاف في المدينة المنورة باسمه الشريف، ففي إحدى الوثائق العثمانية المؤرخة بــ (23 ربيع الأول 982هــ/1574م) جاء فيها :” لقد أرسل شيخ الحرم بالمدينة المنورة قدوة الأماجد والأعيان محمد دام مجده دفتر قضايا إلى سدة سعادتي، حيث جاء فيه إنه توجد بالفعل أوقاف في المدينة المنورة للرسول صلى الله عليه وسلم عبارة عن بيوت ودكاكين، بيد أنها في طريقها إلى الخراب بسبب عامل الزمن”.

وفي العهد العثماني بلغت الأوقاف داخل المدينة المنورة والمخصصة للحرم المدني (434) موقعًا، ثم الأوقاف الخيرية بلغت (378) موقعًا، وشغلت نحو (20) كم2، أي نحو (34%) من مساحة المدينة آنذاك، ولعل السبب يعود إلى أن المدينة كانت مهبطًا لطلبة العلم والزوار على مدار السنة، فاستحقت أن تستقطب عددًا كبيرًا من الأوقاف كمدارس وأربطة – وقد تميزت الفترة قبل نشأة المملكة العربية السعودية بأن عدد الأربطة في المدينة المنورة فاق عدد المدارس– وتكايا ومكتبات ودور للطلبة وغيرها، بالإضافة إلى أوقاف لمصالح المسجد النبوي حيث إنها تتعاظم مع تعاظم الاحتياجات له، وتم أيضاً رصد أوقاف  يتم إنشاؤها من داخل المدينة، وأيضًا من خارجها لمصالح فئات محددة كالعلماء – مثل وقفية العلماء المغاربة المالكية- أو طلبة علم، أو زوار من الخارج.

ومع نشأة المملكة العربية السعودية، تم تنظيم الأوقاف في المدينة، وخصوصًا أن العديد منها كان ملاصقًا للحرم المدني، فتم تعويض هذه الأوقاف مقابل توسعة الحرم. 

وحسب دراسة منشورة، فإن الأوقاف في المدينة المنورة لعام (1438هــ/ 2016م) تبلغ (312) وقفًا، موزعة على (88) وقفًا خيريًا، و (110) وقفًا مشتركًا، و (114) وقفًا ذريًا.

وتظهر بعض الدراسات أن مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة من أكثر المدن في السعودية ريعًا وقفيًا لعام (2017م)، فالعائدات السنوية للأوقاف العامة تصل إلى (325) مليون ريال سعودي [حوالي 87 مليون دولار أمريكي]، أعلاها ريعًا ما تحقق في مكة المكرمة حيث بلغت العوائد السنوية فيها (92) مليون ريال سعودي [24,5 مليون دولار أمريكي]، وفي المدينة المنورة بلغت (84) مليون ريال سعودي [حوالي 22 مليون دولار أمريكي]، ثم مدينة جدة القريبة من مكة المكرمة وبلغت (63) مليون ريال سعودي [16,8 مليون دولار أمريكي] كما في الشكل التالي

وفي دراسة أقامتها لجنة الأوقاف في الرياض، وشملت تسع مدن رئيسية – من بينها مكة المكرمة، والمدينة المنورة – تبين أن من المقترحات الرئيسية لتطوير قطاع الوقف فيها العمل على إعداد تشريعات وتنظيمات مطمئنة للواقفين والجهات الوقفية، تحفز الهيئة وتلزمها بالإفصاح المالي، وفصل الجوانب الإدارية للأوقاف عن الجوانب الرقابية، ليبقى دور الهيئة دورًا رقابيًا على الأوقاف، دون التدخل في شأن إدارتها، ثم إيجاد تنظيمات وتشريعات تقضي بتكليف مدع عام للأوقاف ترفع عن طريقه الدعاوى لدى الجهات القضائية، واشتراط لوائح الحوكمة في شرط الواقف وتشكيل مجلس للرقابة ومجلس للنظارة

ومن الأسباب الرئيسية لتحديات إدارة الوقف للحرمين الشريفين – كما جاء في الدراسة – ضعف الإجراءات القانونية فيما يخص الوقف، ووجود إجراءات مطولة في أذونات البيع والشراء لاستثمار الأوقاف، كما أن ضعف الإدارة له أثره في انخفاض عوائد الوقف، وهذا يرجع إلى قلة الخبرة والكفاءة الإدارية لدى إدارات الأوقاف، وأيضًا لعدم تعامل إدارات الأوقاف بأسلوب الإفصاح والشفافية عن حساباتها وميزانياتها.

وتذكر دراسة أخرى أن من تحديات الأوقاف في مكة والمدينة العمل على منع الاستبدال الأوقاف الواقعة فيهما إلى مناطق أخرى تحقيقاً لغبطة الوقف وتعظيم المنفعة للمستحقين.

القسم الثاني: أوقاف الحرمين الشريفين خارج مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة

يثبت لنا التاريخ أن مصادر مخصصات الحرمين الشريفين كانت متنوعة، وأبرزها الأوقاف المباشرة والأوقاف غير المباشرة كالصدقات والهبات، وما تنفقه الدول كالإسهامات النقدية – مثل الصرة الرومية، والصرة الإرسالية – أو العينية كالإخراجات وغيره.

ومن استطاع من الدول والأمصار أن يوقف ويحبس لصالح الحرمين الشريفين فعل ولم يقصر، ما شكّل خارطة كبيرة لأوقاف الحرمين في العالم الإسلامي على مدار التاريخ الإسلامي، ففي زمن الأيوبيين والمماليك صار للأوقاف ثلاثة دواوين، هي الأوقاف الأهلية، والأوقاف المخصصة للمساجد، وأوقاف الحرمين الشريفين.

واستمرت هذه الظاهرة لعدة قرون، يمكن أن نقول إنها تلاشت فعليًا في نهايات عقد الخمسينيات من القرن الماضي.

وقد تم رصد أكثر من دولة عربية تم فيها ضبط أوقاف للحرمين الشريفين، وثبت وجود أوقاف للحرمين في كل من اليمن ولبنان وتونس والجزائر وفلسطين والأردن وسوريا ومصر والمغرب والعراق وليبيا وغيرها، ويمكن ضرب أمثلة على أكبر النماذج التي أسست أوقافا للحرمين الشريفين، ذلك من باب المثال لا الحصر، إذ إننا بكل تأكيد لم نحصر جميعها:

  1. في مصر، كانت الأوقاف فيه تتسع من عصر إلى عصر، لما جاءت الدولة الأيوبية ثم المماليك صارت مصادر الوقف منحصرة في ثلاثة أشكال رئيسية، ديوان لوقف المساجد، وديوان لأوقاف الحرمين، وديوان لأبواب الخير الأخرى. أي أن أوقاف الحرمين منذ عهد المماليك وهي آخذة في التنامي والتمدد في حواضر مصر، بحيث أدى إلى تعزيز الديوان المستقل لأوقاف الحرمين في القاهرة والذي يختص بـالإشراف على أمور أوقاف الحرمين وتحصيل وارداتها، وقد تطور هذا الديوان مع مرور الوقت حتى صار لها ميزانية مستقلة عن ميزانية عموم الأوقاف في مصر. قدرت مساحة الأراضي الزراعية الموقوفة على الحرمين الشريفين بــ (6.281) فدانًا. وللأسف ساهمت بعض القوانين في الاستيلاء على هذه الأصول كما في المادة الأولى من القانون (247) لسنة (1953م) التي سمحت لوزير الأوقاف المصري صرف ريع الوقف كله أو بعضه على الجهة التي يعينها هو دون التقيد بشرط الواقف، وهذا للأسف انطبق على هذه الأصول الخيرية وغيرها.

وقد بلغت إيرادات أوقاف الحرمين الشريفين في مصر ما يقارب (47) ألف جنيه مصري [حوالي 3 آلاف دولار أمريكي] عام (1345ه/1926م)، ثم وصلت ما يقارب (100) ألف جنيه مصري [حوالي 6300 دولار أمريكي]، وصافي الريع (66,315) جنيهًا مصريًا [حوالي 4200 دولار أمريكي] وذلك في آخر ميزانية مستقلة لأوقاف الحرمين الشريفين للسنة المالية (1951/1952م)، كما هو الحال في محافظة كفر الشيخ حيث كانت أوقافها مخصصة للصرف على تكايا الحجاج في مكة.

  1. الجزائر، كانت فيها أوقاف مخصصة للحرمين الشريفين، حتى تم تسمية مؤسسة باسم الحرمين الشريفين لعظم الأوقاف المخصصة لهما، وكان يُبعث الريع في السفن لمكة والمدينة، فيتم إرسال مداخيل الريع لفقراء الحرمين كل سنتين، وقد أثبت هذا خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر أن أغلب الأوقاف في مدينة الجزائر وخارجها، وكانت تقدر بــ (1373) ملكا، منها (70) ضيعة يشرف عليها وكلاء الحرمين، وقد ذكر قنصل فرنسا أن كل بيوت الجزائر وما يحيط بها من أراض تعود لأحباس الحرمين

وفي نهاية العهد العثماني، بلغت هذه الأوقاف في الجزائر (840) منزلًا، (758) دكانًا، (33) مخزنًا، (82) غرفة، وثلاثة حمامات، و(11) كوشة، وأربعة مقاه وفندق، و(57) بستانًا و (62) ضيعة، و (6) أريحة، و (201) إيجار. وهذا يعني أن أوقاف الحرمين الشريفين، كانت عظيمة وكبيرة في العاصمة الجزائرية، فقد كانت تشمل (550) وقفًا، ومنها أوقاف سبل الخيرات التي أسسها شعبان خوجة (999هـ/1590م) وهي من الأوقاف الكثيرة، حتى قيل أن أملاكها تقدر بثلاثة أرباع الأوقاف العامة.

في ظل الاحتلال الفرنسي، تعرضت الأوقاف للتعدي، فتم منع عمل أوقاف الحرمين بسبب أنها تصرف للأجانب في تصور المحتل الفرنسي، وفي عام (23 مارس 1843م) تم ضم مصاريف ومداخيل المؤسسات الدينية إلى ميزانية الحكومة الفرنسية، هذا الاستيلاء على الأموال الوقفية جعل الأوقاف تتناقص ويستولى عليها من غير المسلمين، حتى أن الأملاك الوقفية بلغت في عام (1936م) ما يقارب (1419) عقارًا، تصرف المحتل الفرنسي في (188) بناية وقفية لصالح الإدارات الفرنسية، وتم هدم البعض الآخر.

  1. تعتبر تونس من الدول الإسلامية التي كثر فيها الوقف على الحرمين الشريفين، وقد ثبت في مدينة تونس الشمالية، ومدينة بنزرت ومدينة ماطر وطبرية، إذ كانت هناك إدارة تسمى بإدارة أوقاف الحرمين الشريفين.

وهي نوعان: أوقاف عامة وهي الأكثر انتشارًا، مثل العقارات والهناشر – الهنشر وحدة قياس للضياع التي تفوق مساحتها المائة هكتار- كما في تونس العاصمة، وقد بلغت الهناشر والأراضي الزراعية المخصصة للحرمين الثمانين قطعة، وتقع هذه الأوقاف الزراعية في أخصب المناطق الزراعية في ضواحي مدينة تونس والجزيرة القبلية.

وغالبًا ما يتم فرض ضرائب على مستأجري هذه الأراضي، أو من يستأجرها من الفلاحين، وكانت المداخيل تكون أيضًا من بيع غلة الزيتون، ثم يتم جمع هذه المداخيل لتغطية مصاريف هذه الأوقاف، ثم يُبعث في صرة المحصلة، وهي ظاهرة قديمة عند أهل تونس، حيث كان في سنة (796هــ/1394م) يُولى أهمية بالغة في هذه الصرة، فكان يضفى عليها هالة توشيحية بواسطة الحلى، وقد بلغت في سنة (1886م) ما يصل إلى (5000) فرنك، وكانت تقسم الصرة بين أهل مكة وأهل المدينة، ثم تم تحديد الصرة بعد تأسيس جمعية الأوقاف عام (1874م) بثمانين ألف ريال ما يعادل 50.000 فرنك فرنسي، ثم وصل هذا المبلغ عام (1946م) إلى 200.000 ألف فرنك فرنسي ، ثم إلى 1.000.000 فرنك فرنسي سنة (1955م)، هذه المبالغ كانت تصل من الأوقاف العامة للحرمين الشريفين. أما النوع الثاني فهي أوقاف خاصة لكنها محدودة، وهي عبارة عن مبادرات شخصية كانت ترسل من أفراد كأموال نقدية، وقد وصلت قيمة هذه الأموال النقدية في سنة (1955م) إلى 500.000 فرنك.

وفي قراءة أخرى، فإن مختلف أنواع الموقوفات على الحرمين عام (1920م) كانت (386) بمدخول كلي يقارب 240,000 فرنك فرنسي، وهذا ما جعل المحتل الفرنسي يعمل على الفصل ما بين مداخيل الأوقاف العامة ومداخيل أوقاف الحرمين، كي يتمكن من السيطرة عليها بكل سهولة، ويحددها لاحقًا، وصار الأمر أن تغافل المستعمر عن بعث الصرة المالية للمستحقين في الحرمين على مدار سنوات متتالية.

  1. المملكة المغربية، وقد ثبت أن للمغاربة وأهل الأندلس وكذلك أهل ليبيا أوقافًا وأحباسًا لصالح الحرمين الشريفين، سواء أكانت في مكة والمدينة، أو في ديارهم، ومما ورد فيها، أوقاف للمصاحف والمكتبات والعقارات، فمنها وقف إسماعيل كمالي بإقامة عدة محلات تجارية بسوق طرابلس لصالح وقف في مكة المكرمة، ووقف السلطان المولى إسماعيل العلوي (1139هــ/1727م) بمكناس على الحرمين الشريفين، ووقف إسماعيل ابن الشريف وهو عبارة عن مائة ألف شجرة من الزيتون حبسه للحرمين الشريفين، وأحباس السلطان محمد العلوي (1189هــ/ 1775م) ثلاثة فنادق في فاس على الطبقات المستضعفة من أهل المدينة.
  2. أوقاف الحرمين الشريفين في بلاد الشام، ولعلها ابتدأت منذ أيام الأمويين، حيث أنشأ لها الخليفة هشام بن عبد الملك ديوانًا خاصًا بها، ومن أكثر الأوقاف التي خصصت للحرمين في عهد المماليك هي وقف السلطان الأشرف (778هــ/1376م) على الحرمين، حيث خصص عشر قرى كاملة من قرى سوريا والأردن وفلسطين، وتصل مساحة هذه القرى ما يقارب (10.465) كم2، وتشمل الأراضي والشجر المثمر والدور، وبلغ ريعها في ذلك الزمان (215) ألف درهم توزع كلها على أعمال الحرمين الشريفين.

وتعتبر أوقاف البقاع في الجمهورية اللبنانية نموذجًا واضحًا على انتشار هذه الأوقاف في بلاد الشام، والتي قدرت بمساحات شاسعة من الأراضي ذات المواقع المهمة، وهي تتبع وقف الحرمين الشريفين في البقاع الأوسط، بلغت مساحتها حوالي (16) مليون م2، وبتاريخ (26 أغسطس 1939م) أصدر المفوض السامي الفرنسي قرارًا رقم (182)، بعدما تم نقل الأرمن إلى لبنان، وبالذات إلى بلدة عنجر في البقاع، ينص على اغتصاب الاستعمار الفرنسي مساحات شاسعة من الأراضي الوقفية، ونقل القسم الأكبر منها إلى استخدامات اللاجئين الأرمن، بل وتحول بعضها إلى أوقاف أرمنية باسم البطركية الأرمنية الأرثوذكسية، وباسم البطركية الأرمنية الكاثوليكية.

  1. أوقاف الحرمين في اليمن، كانت منتشرة لدرجة أنه قيل لا يوجد مديرية إلا وفيها وقف للحرمين الشريفين، وأكثر هذه الأوقاف في لواء تهامة، تحديدًا قضاء زبيد، وفي محافظة إب وهي أوقاف مستقلة عن باقي الأوقاف في اليمن، أنشأها الإمام يحيى بن حميد الدين، وعين لها النظارة، وكانوا يجمعون أثمان المحصلة من مخاليف اليمن ونواحيها، ثم ترسل إلى ناظر أوقاف الحرمين في صنعاء، ثم يتم بعثها بصورة سنوية إلى إدارة الحرمين.
  2. أما عند العثمانيين، فقد كان هناك اهتمام واضح بأوقاف الحرمين الشريفين، فيعتبر وقف الدشيشة من أكبر الأوقاف التي خصصت للحرمين، فقد ضم خمسين قرية للصرف على الحرمين، وكانت هناك ظاهرة تسمى الصرة المصرية على الحرمين الشريفين، وهي الأموال التي تصرف على أهل الحرمين، وتم ضبطها من عام (1154-1228ه/ 1741-1813م).

وذكر أن للسلطان سليمان القانوني وقف مخصص على كسوة الكعبة، ووقف مخصص على أهالي الحرمين، وكذلك وقف المحمدية نسبة إلى السلطان محمد الذي تولى من عام (1003-1012م)، وأنشأ تكية بظاهر المدينة المنورة، أوقف عليها مجموعة من القرى بلغ عددها 29 قرية، وبلغ ما يرسل منها من الحبوب (9.900) إردبًا، وما يقارب (5.604) كيسًا مصريًا، ويمكن أن يقال هذا في أوقاف الأمراء والأعيان، وأيضًا نساء السلاطين، فعلى سبيل المثال حبست والدة السلطان سليم الثاني وزوجة السلطان سليمان القانوني سنة (956هــ/1549م) أراض زراعية من أراضي مصر بلغت (1754) فدانًا . وبعد سقوط الخلافة العثمانية عام (1343هـ/1924م)، صارت كل الأوقاف تحت سلطة الدولة الحديثة، ومنها أوقاف الحرمين الشريفين.

أما الآن، فإنه لا يصل أي ريع لهذه الأوقاف، لعدة أسباب، من أبرزها مفهوم الدولة الحديثة الذي كرّس الاستقلال الكامل لكل دولة بالتصرف فيما على أراضيها من موارد، وجعل الحديث عن هذه الموارد من باب تدخل الدول الأخرى فيه، وإعلان عدم جواز التدخل هذا صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (36/103) وتاريخ (9 ديسمبر 1981م)، علمًا أن هذه الأوقاف المخصصة للحرمين الشريفين كانت قبل تأسيس هذه المنظمة الدولية بعدة قرون.

  1. في بعض دول الخليج العربي، ثبتت بعض الوقفيات في بعض دول الخليج العربي لصالح الحرمين الشريفين، في دول مثل الكويت، وسلطنة عمان ومملكة البحرين، وهنالك أوقاف قديمة ثبتت في الحجج الوقفية من عُمانيين للمسجد الحرام ولعمارته تعود أصولها إلى القرن السابع الهجري، كما أن حمود البوسعيدي أقام بيت الرباط في مكة، بناه في حارة الباب بقلب مكة المكرمة ليكون سكنًا للوافدين إلى الديار المقدسة من الحجاج والمُعتمرين العُمانيين، ووقف له أصولًا لإدارته وصيانته، وقد تم إعادة بنائه مرة أخرى، وتم هدمه مع التوسعة، وعوضت بمبالغ نقدية استثمرت بشراء عقارات في مسقط لصالح سكن الحجيج والَمعتمرين، كما ثبت الأمر نفسه في مملكة البحرين، من وجود عمارات مخصصة للصرف على فقراء الحرمين الشريفين.
  2. في الجمهورية العراقية، ثبت فيها بعض الأوقاف المخصصة للحرمين الشريفين، لا سيما في البصرة وبغداد.
  3. كما يظهر أن في دول شبه القارة الهندية، – كالهند وباكستان – كانت هناك أوقاف مخصصة للحرمين الشريفين، ولكن لم يتم التحقق من حجمها وريعها.
  4. أما الأوقاف النقدية، فقد كانت تصل للحرمين الشريفين منذ عصر المماليك، ومرورا بالعصر العثماني الذي تعامل مع الوقف النقدي كأداة أكثر فعالية من باقي الأصول الوقفية، فقد كان يصل ريع الوقف العقاري أو الوقف النقدي من تلك الدول التي خصصت فيها أوقافٌ للحرمين إلى مندوب أغوات الحرم الشريف ليصرفها في مصارفها كما هو محدد، وقد ثبت تسلم غلة الأوقاف المخصصة لهم من البصرة عام (1344هـ/1925م)، وفي عام (1345هـ/1926م) من فلسطين وتونس.

أما عن واقع أوقاف الحرمين الشريفين في زماننا المعاصر، فيمكن القول إن واقع هذه الأوقاف في الدول قد اندثر فعليًا، وبقيت آثار وجود سابق لأوقاف الحرمين الشريفين فيها – كما توجد بعض وقفيات متفرقة لأفراد ما زالت تعمل بمحدودية – وقد أدى ذلك إلى تلاشي التحبيس للحرمين الشريفين.

وقد صدر نظام المطالبة بأوقاف الحرمين عام (1350هـ/1931م) في أي دولة بالطرق الممكنة المشروعة من أي جهة كانت، وعن طريق إنشاء جمعية يكون مقرها مكة المكرمة، ولكن للأسف لم تر هذه الجهود وغيرها النور، أو حتى الكشف عن مقدار الأصول المحبسة للحرمين الشريفين، ويعود هذا بتقديرنا إلى عدة أسباب، أبرزها الخصوصية المتعلقة بسيادة الدول على الأوقاف في دولها، فضلًا عن سبب حقيقي وبارز أن أغلب هذه الأوقاف تم اغتصابها منذ فترة الاستعمار وحتى نهاية عقد الخمسينيات، وبالتالي فإن المطالبة بها تكون صعبة لاختفاء الأصول، فضلًا عن غياب الوثائق للعديد منها، وأيضًا تأجير الوقف تأجيرًا طويلًا وهو الحكر، وبسبب هذا العقد الطويل انتهى الأمر بالاستيلاء على الوقف، ومثله ترك هذه الأوقاف بدون صيانة فتتحول إلى خراب ووقف معطل.

وكذلك يمكن اعتبار أن تكفُل المملكة العربية السعودية باحتياجات الحرمين الشريفين بشكل كامل قد جعل من غير الضروري متابعة هذه الأصول الوقفية في الدول، وتنص المادة الخامسة من نظام الهيئة العامة للأوقاف الصادر عام 1437هــ على أن من اختصاص الهيئة اتخاذ الإجراءات اللازمة للاستفادة من الأموال الموقوفة الثابتة والمنقولة خارج المملكة على أوجه بر داخل المملكة بالتنسيق مع وزارة الخارجية، وإنفاق إيراداتها على مصارفها.

ولكن الأصل الشرعي أن هذه الحقوق لا تسقط بالتقادم، والمفترض أن يتم إحياء هذه الفريضة التي تربط المسلمين بالمساجد الثلاثة روحيًا، وهذا لا يكون إلا بالتعاون والتنسيق والمتابعة